نعيم تميم الحكيم : الحوار الصحافي الأخير


نعيم تميم الحكيم
عندما هممت بالذهاب لمؤتمر الفتوى الذي عقد في رحاب رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة قبل خمسة أشهر تقريبا، كنت أعد العدة للقاء ثلة من العلماء الأفاضل الأجلاء، ليس على المستوى المحلي فحسب بل على مستوى العالم الإسلامي، وحملت معي في آخر أيام المؤتمر عددا من المحاور الساخنة.. فوجئت بالكم الكبير من العلماء الفضلاء انتظرت فراغ الشيوخ من جلساتهم، وعقب العشاء تجولت بين الطاولات بحثا عن كبار العلماء، فإذ بالوقور يقبل نحوي ومعه ابنه، يمشي الهوينى، بشوش الوجه طيب الملتقى يسلم على كل من حوله فاقتربت منه وعرفته، إنه الشيخ عبد الله بن جبرين الذي أقرأ الكثير من فتاواه في بعض الكتب ومواقع الإنترنت، واستمع لبعض مواعظه وفتاواه عبر أثير الإذاعة، لكن لم يكن لي أن التقيت به وجها لوجه قبلا.
اقتربت منه فتبسم وسلمت عليه ثم طلبت منه حوارا صحافيا وكنت في قرارة نفسي أخاف أن يرفض لكونه متعبا، فالساعة قاربت الحادية عشرة والنصف، وطلبي في هذا الوقت للشيخ الكبير في السن يعتبر غير مناسب على الإطلاق لكنها فرصة ذهبية في النهل من علم الشيخ والخروج ببعض المواضيع الصحافية المثيرة، لكني فوجئت حقيقة بتواضع الشيخ وقد سهل لي مهمة الحوار ابن الشيخ عبد الرحمن الذي كان في قمة الأدب والاحترام، فجالست الشيخ وكانت هيبته تغطي المكان ولكني طمعت في تواضعه فدار بيني وبينه هذا الحوار ..سألته في البداية عن رأيه في حريق الخيمة الثقافية في نادي الجوف الأدبي فكان أول عالم يستنكر هذا الفعل بقوله : «لاشك أن هذا الفعل من الخطأ الظاهر. والواجب أن يعود أصحابه إلى ما كان عليه الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام وسائر الأئمة المقتدى بهم في مثل هذه الأمور، أما هذه البلية والحوادث وإشعال الحرائق والتخريب والتفجيرات فإنها بلا شك مضللة وسبب في انتشار الفوضى والخلافات الشديدة بين أبناء المجتمع الواحد،
وكان قد دار جدل في أحد جلسات المؤتمر حول أحقية المرأة بتولي منصة الإفتاء فبادرت الشيخ بالسؤال حول هذه المسألة فكان جوابه: «الأصل أنها تفتي النساء، فالمرأة إذا كان لها علم فإنها تكون مدرسة كما هو الواقع، وتفتي النساء ممن يسألنها أو اتصلن بها من أخواتها. أما أن تصبح مفتية على الرجال فإن هذا غير صحيح لأنها عورة وكلامها عورة ولأجل ذلك نهيت عن أن تتولى الولايات الظاهرة مثل الأذان لأن فيه رفع الصوت، ولا ترفع صوتها بالتلبية كما يفعل الرجل أو ترفعه بالتسبيح، فكيف مع ذلك تتولى هذا المنصب الذي فيه تلق لأسئلة الرجال ومقابلتهم.
أما إذا سئلت سؤالا وقعت في حيرة منه فلا مانع من أن تتصل بالرجال من العلماء والمشايخ الذين تثق في أنهم أهل علم وصلاح، هذا هو الذي نراه». وتطرق الحوار مع الشيخ لمسألة تجديد الفكر الإسلامي وتسوير الآثار في مكة والمدينة، وكذلك أبدى رأيه في مؤتمر الفتوى الذي كان منعقدا ذلك الحين.
انتهينا من الحوار وتحركت في نفسي الرغبة الصحافية في التقاط الصور مع الشيخ، تحرجت خشية أن يمانع فقد سمعت أنه لا يحب التصوير، أخيرا تجرأت وطلبت منه ذلك، تبسم ووافق من فوره، وقام ابنه عبد الرحمن بالتقاط الصور.
ودعت الشيخ وأنا لم أصدق نفسي من الفرحة بأن أجريت حوارا مع عالم بحجم العلامة ابن جبرين ــ رحمه الله ــ الذي تجاوب مع أسئلتي ولم يستنكرها أو يعتذر عن إجابتها أو يتململ منها بل كان سلسا معي ولم أشعر أنه يريد الاستغناء عن الحوار بأسرع وقت ممكن ــ وإن كانت أسئلة عصرية وبعضها غير تقليدي ــ إلا أن الشيخ منحنا من علمه وفقهه فاستفدنا وأفدنا رغم إني قد سألت نفس هذه الأسئلة وغيرها لعلماء كبار في المؤتمر وخارجه فرفضوا الإجابة عنها. عندها عرفت قيمة الشيخ ومدى علمه وتواضعه وحرصه على توصيل المعلومه الصحيحة وفق المنهج الصحيح الذي يراه ولو كان يخالف آراء كثيرة.
ودعت الشيخ في تمام الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، ولم أكن أعلم أنه سيكون الحوار الصحافي الأخير للشيخ وهو يعود إلى الرياض بعد أن مكث في مكة المكرمة أياما ومن ثم تدهورت صحته.
ودعته وأنا لا أدري أنني آخر صحافي يلتقيه ــ ربما ــ، وأن لقائي به هو مشهد اللقاء الأخير لشيخ جليل وعالم أمة، فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ونفع بعلمه الإسلام والمسلمين.

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال