بدر المشاري : ابن جبرين بين الحوت والنمل


الشيخ عبد الله بن جبرين علم وقمة ورأس، القلم يخجل من الكتابة عنه، والأفكار تتسابق في الحديث عن شخصه، والمواقف تتزاحم لوصفه، فالحديث عنه ليس من مجاراة الواقع، أو زيادة في التباكي أو استجداء النحيب لا، وان كانت قلوبنا متفطرة وأنفسنا متحسرة والدموع واكفة، وأنا هنا لست ممن يؤلّه الأشخاص ويبالغ في الإطراء ويغلو في المدح ولا أقيم مأتماً في ذكراه كلا، لكني تأملت معنى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن أهل السموات ومن في الأرض يستغفرون لطالب العلم وحتى الحيتان في البحر (وهو أكبر حيواناته) والنمل في الجحر (وهو أصغر حيوان في البر)، قلت هنيئا لابن جبرين العالم ولا نزكي على الله أحدا فهو من استغفار الحيتان والنمل.
لن أتحدث عن معرفتنا بشيخنا وقراءتنا عليه والمواقف معه والاستفادة منها ولقاءتنا المتعددة التي لا أحصيها من كثرتها، فآخرها زيارة بيته الصغير قبل دخوله المستشفى بأيام هذا العام، كان فيها من جميل الذكريات وروائع الفوائد، ولا أعتقد أن المراثي والتباكي سيحقق لنا عملاً أو يفتح لنا مغلقاً، ولأن الإسلام على مر عصوره يطول تاريخه وعرضه، لا يموت إن مرض ولا يقف إن تباطأ أهله وتثاقلوا الخطى.
فالصادق في حبه والمتأثر من قلبه يقوده الحزن الحقيقي والحب الصادق إلى آمال أبعد وآمال أعظم، فيحمل الراية ويغير السلوك إلى ما هو أفضل ويخوض غمار المجد بنهج الشيخ ويحذو حذوه، ويقتفي أثره ويسير على منواله، وإلا فما الحكمة من وجود العلماء، ليعلموا ويبلغوا ويقتدى بهم ويُشار ويُسَار على أثرهم، وإني كنت أتابع وأقرأ وأرصد ما كتب من مقالات وما قيل من قصائد وشعر وما رثي به الشيخ من مراث، واستمعت إلى بعض الخطب المباركة وأطرق مسامعنا المشاعر المتأججة بل ولا أبالغ ورأينا دموع الحزن على فراق الشيخ والحب والوفاء له، ولا شك أن هذا يدل على حب حراس الشريعة وحملة المنهج والمدافعين عن لا إله إلا الله، لكن الخير يزداد إذا ترجمت المشاعر عملاً وطبقت تلك المحبة واقعاً، فأقول أولاً إذا مات الاسم بقي الأثر والاسم.
فالصغار نقول لهم مات الشيخ وقد حفظ القرآن وأتقنه وعمره ستة عشر عاماً، وكان أهم عالم، فتعلم وكابد وحفظ المتون وتلقى الشرف والتعلم على أيد علماء ربانيين آنذاك فما هو حفظك وأين همتك؟!
وأقول للآباء: وكان أبوهما صالحاً، صلاح الأب صلاح للابن - بإذن الله -، فالشيخ على يدي أبيه بدأ في تعلم القرآن، وقال فيه لما رأى حرصه وجدّه ورغبة السفر إلى طلب العلم:
فيا رب عبد الله وفقه للهدى   وجنبه محذورات ما يتوقع
وسدد به في كل أمر يريده     ينال به خيراً وللبر يصنع

فأين دورك وما هو تأثيرك وهل تحرص على دعاء ربك،وأقول ولمن يتلقى ويلقي، ليكن همك الحق والدليل وقبول الحق أياً كان مصدره، دون تعنصر لفئة ولا لأشخاص أو حتى لمذهب، فكان الشيخ يدور مع الدليل حيث دار، كما كان أسلافه وكثير من أهل العلم الراسخين، مزيج بين عدد من العلماء، وخريج علوم وفهوم كثيرة فالإمام محمد بن إبراهيم وابن باز في نجد وغيرهما وإسماعيل وحماد أنصاريين، ومحمد البيجاني حضرمي وعبد الرزاق عفيفي مصري والشنقيطي موريتاني محمد الأمين رحمهم الله رحمة واسعة أئمة الهدى ومصابيح الدجى وهذا نهج قويم وفهم للكتاب والسنة عميق، واقتفاء نهج أسلاف الأمة الصلحاء، والسبيل الأحكم فلينتبه لهذا.
وأقول لكل داعية ومصلح ان ابن جبرين مضى العالم على نور من الله دعا على علم وبصيرة، والتزم الحكمة وترك الجدل، راغباً في الحق، يريد الإصلاح ويُحذر من الفتنة، ويجتنب الشبهة، ويأخذ بالرفق ويدعو باللين، ولم ينزع يداً من طاعة ولا شذ عن جماعة وما شمت بأقرانه ولا يتصيد على أهل الخير أخطاء ولا يتتبع عثرات، ولا يلحق زلات، ونحسب انه منع النفس من الحقد والحسد والظلم، فكان خير مثال في ذلك، فازداد تواضعاً مع زيادة العلم، فارتفع شأنه وعظم قدره.. فخذ أيها الداعية بهذه الخصال لتفلح في دعوتك وتثمر في طريقتك، وتعظم منزلتك ويحبك الصغير والكبير والملك والوزير والخادم والأمير، باختصار كن كالغيث أينما حللت نفعت.
وأقول للغيورين للحق وعلى الحق: إن الشيخ يغار على دين ربه لكن هدفه نصر الصدق وبيان الحق لا ينتصر لنفسه ولا يغضب لها، بل ينتصر للحق إذا انتهكت حرمات الله ولم يُعلم انه خاصم إلا أهل البدع.
وأقول لأبناء وطلاب وأحباب الشيخ: هلموا الى العمل، واعملوا لما يحفظ تركة الشيخ من الميراث العلم النافع والعمل الصالح، أظهروا مآثره وأسراره الرافعة للهمم، افتحوا كتاب الذكريات وقلبوا صفحات الحياة العلمية العملية الصادقة الناجحة، امنحوا الطلاب والمحبين والأمة الفرصة في الالتحاق بمدرسته والابتعاث إلى تاريخه والتخرج من جامعته، هذا من البر الذي هو سنة في حياته ولكم بعد موته وأقل حقوقه عليكم زادكم الله براً كما أنتم وعرفتم.
وأقول للتجار والمحسنين: إن الذي منحكم المال هو الذي أعطانا وإياكم النعيم، هو المتفضل ربنا الرزاق الذي لا يريد منا من رزق ولا إطعام، فإن حرمتم العلم الشرعي حملاً وتدريس وتعلماً فلا تحرموا آثره ونشره وأنتم قد أنعم الله عليكم بالمال، فانشئوا الأوقاف وأقيموا المؤسسات والمراكز العلمية لإحياء العلماء والأموات وارعوه واسقوا زرعها لتجنوا ثماره يوم حصاده في الدنيا والآخرة فنحن لكم داعين ولجهودكم شاكرين، وليكن لتراث ابن جبرين من بذلكم نصيباً وافراً وفاءً له وللأمة لتدخلوا في قول رسول الله (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث).
رحم الله ابن جبرين وعلماء أمتنا وسائر المسلمين والمسلمات، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فإن العين لتدمع وان القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا ابن جبرين لمحزونون، ولله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بأجل مسمى، وإنا - بإذن الله - لسائرون ومتفائلون وبالله واثقون.

بدر المشاري


http://www.al-jazirah.com/1245723/rj2.htm

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال