عبدالله بن سعيد بن زعير : رحلة الذكريات مع فقيد الأمة


رحلة الذكريات مع فقيد الأمة


الزمن: صلاة العصر، المكان: المسجد المحاذي لمنزل الوالد الذي كان يؤمه ويعتلي منبره خطيباً قبل سجنه تحديدا في اليوم الثاني بعد إطلاق سراح الوالد من سجنه، الذي مكث فيه منذ عام 1415هـ، فقد تعانق الشيخان أمام المصلين وأمسك كل منهما برأس الآخر ليقبله، إلا أن الشيخ ابن جبرين أقسم على أن يقبّل رأس الوالد ففعل. وبعد أن شهد الشيخ ابن جبرين رحمة ربي عليه الصلاة معنا في المسجد، أمسكت بيده اليسرى نحو منزل الوالد، وألقى كلمة مباركة هنأ فيها الوالد على صبره.

مضى شيخنا العلامة عبد الله بن جبرين فقيد الأمة وصاحب الهمة العالية في الطلب والعبادة والبلاغ.. فعليه من الله رحمات تترى بعدد ما خلق الله من مبدأ الكون إلى منتهاه.

وحين يفقد أحدنا عزيزاً عليه يبدأ شريط الذكريات باستعادة جميل اللحظات والمواقف.. كيف لا وهي مع مثل هذا العالم الجهبذ!

فقد كانت لي مع الشيخ العلامة ذكريات عطرة لا تنسى .. تبقى محفورة في ذاكرتي، أولها نهاية العام الهجري 1413هـ، عند باب منزل والدي ـ فرج الله له ـ حينما ودعنا جمعاً غفيراً من العلماء والمشايخ وأساتذة الجامعات بعد تناولهم طعام الغداء، ومنهم العلامة ابن جبرين ـ رحمة ربي عليه ـ، حيث أذكر سيارته المرسيدس البيضاء، وأظنها من أول الثمانينات الميلادية، وقد علت الجميع الدهشة، فقد كان الشيخ من يقود سيارته بنفسه ..!!

ثاني المواقف .. حين طلقت العزوبية وعزمت الدخول في قفص الزوجية من العام 1414هـ، فقد كان الشيخ ـ رحمه الله ـ هو الذي عقد قراني على زوجتي أم سعيد، عندما استأذنه والدي ـ فرج الله له ـ أن يتكرم بإبرام العقد، فوافق شيخي الجليل بتواضعه الجم، ولم يتلكأ أو يتردد في إجابة الدعوة على كثرة ارتباطاته وانشغالاته، فحضر معنا في بيت والد زوجتي ـ شفاه الله ـ وتناول معنا الشيخ طعام العشاء في بيته.

الموقف الثالث، حينما خُطبت أختي "أم محمد"، وعرضنا الأمر على الوالد في إحدى زياراتنا له في السجن من العام 1420هـ، فوافق بل وقابل خاطبها في زيارة أخرى، وحين تم الاتفاق على كل التفاصيل وتم تحديد موعد الزواج.. إلا أننا وقعنا في مشكلة قبل الموعد بيومين.. فالوالد لا يمكنه الخروج.. ومُنعت عنه الزيارة!! كما منع عنه الاتصال!! فكيف نبرم عقد النكاح ولا ولي؟!! ولا وكالة منه!! عرضنا الأمر على عدد من مأذوني الأنكحة فرفضوا مع علمهم بالحال .. فعرضه عمي د.فهد على الشيخ عبد الله ـ رحمه الله ـ وأكد له أن والدها موافق على الزواج من هذا الشاب، فطلب مهلة ليتأمل الأمر .. وحين مررت على الشيخ في منزله بحي السويدي، قلت له: يا شيخ، ليس لدينا حل ولا تواصل لنا مع الوالد.. فوافق تغمده الله بواسع رحمته، وكان معي وقتها الشاب (علي الكلثم) فتم العقد ولله الحمد.

رابعها.. الأربعاء 22/1/1423هـ، الزمن: صلاة العصر، المكان: المسجد المحاذي لمنزل الوالد الذي كان يؤمه ويعتلي منبره خطيباً قبل سجنه تحديدا في اليوم الثاني بعد إطلاق سراح الوالد من سجنه، الذي مكث فيه منذ عام 1415هـ، فقد تعانق الشيخان أمام المصلين وأمسك كل منهما برأس الآخر ليقبله، إلا أن الشيخ ابن جبرين أقسم على أن يقبّل رأس الوالد ففعل. وبعد أن شهد الشيخ ابن جبرين رحمة ربي عليه الصلاة معنا في المسجد، أمسكت بيده اليسرى نحو منزل الوالد، وألقى كلمة مباركة هنأ فيها الوالد على صبره.

وكان مما قال بعد أن استعرض ما تعرض له الإمامان أحمد وابن تيمية من البلاء في السجن: "أهلاً وسهلاً بأخينا الشيخ سعيد، ونقول له: آجرك الله تعالى على ما حصل وعلى صبرك وتحملك وجزاك الله خيراً جزيلاً، والحمدلله على أن أزال الهم والغم.." مجلة السمو العدد السابع عشر صفر 1424هـ.

أختم بموقف حصل في الخامس من رمضان 1428هـ .. كنت في زيارة لأمير منطقة الرياض، الأمير سلمان بن عبدالعزيز، بهدف الحديث معه عن التريث في عدم إعادة الوالد ـ فرج الله عنه ـ للسجن، فقد أُطلق سراحه"مؤقتاً" بتوجيه ملكي كريم ليشهد الصلاة على جنازة شقيقي الليث ـ يرحمه الله ـ، وكنت سأتحدث ومعي أخي د.مبارك مع الأمير ليشفع عند وزارة الداخلية في تمديد فترة خروجه، حتى تهدأ النفوس بعد الحزن بفقد الشقيق..

وريثما ننتظر الإذن بالدخول مع ثلة من المنتظرين كان منهم العلامة الفقيد عبدالله بن جبرين رحمة ربي عليه .. نهضت له مباشرة وعانقته وقبّلت رأسه بعد ممانعته المعروفة، وكان معه ابنه د. عبدالرحمن، فجلست بجانبه وكان أول ما سألني عن الوالد، وقدم لنا العزاء في وفاة الشقيق يرحمه الله .. فقلت له: يا شيخ، نحن أتينا لنتحدث مع الأمير في هذا الشأن لعلك تبذل وجاهتك للشفاعة.. فبادر بالموافقة.. فكان أن تحدث مع الأمير في ذلك حين سمح لنا بالدخول عليه.. وفي نفس اليوم بعد صلاة العصر، كان آخر العهد لي بالشيخ يرحمه الله حيث جاء لزيارة الوالد في بيته وتقديم العزاء في الليث وإبلاغه رسالة من أمير الرياض..

رحمات من الله تترى عليك ياعبدالله بن جبرين، وأنزلك ربي خير منازل الآخرة كما نزلت قلوب عباد الله .. لقد شهد الجميع بلطفه وعلمه وحلمه وجَلَدِه في الطاعة والطلب والعطاء، وبذل كل ما لديه لكل الناس..

اللهم حرّم وجهه على النار، وأنزلْه نزل الشهداء بجوار خير الأنبياء وسيّد الشهداء محمد بن عبدالله عليه صلوات ربي وسلامه عليه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.



http://www.alasr.ws/index.cfm?method=home.con&contentID=10980&keywords=%D8%AC%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%86




أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال