فادي نضال عمر : ابن جبرين الجبل العالم ومايكل الفسل الجاهل

الحمد لله وحْدَه، والصَّلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، يا رب أعن وسدِّد.

أما بعد:

ها هي الدنيا تَئِنُّ وتَئِطُّ من رحيل العلماء، وها هو واحد من أكابرهم وأعاظمهم وأساطينهم قد رحل عنها لملاقاة ربه - سبحانه وتعالى - نسأل الله أن يرحمه، وأن يجعل مثواه الجنَّة؛ فقد كان مثلاً للعالم النِّحْرير، الزاهد التَّقي الصالح - نحسبه والله حسبه - الذي يصدع بالحقِّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

نفسي تشبكت أوصالها، وتداخلت أحزانها، فلا أدري ما أقول بشأن هذا الأمر الصَّعب الثقيل، ولكني أسأل الله الصبر والإجارة، ومهما كتبت عن مناقب الشيخ عبدالله بن جبرين - رحمه الله - فلن أستطيع حصرها أو استيفاءها، ومن أنا حتَّى أحصي مناقب الشيخ؟! إن مثلي ليستحي أن يتحدث عن الشيخ في مقالة، وببعض الكلمات المتواضعة، فالشيح أكبر من أن تحويه مقالة تُكتب، أو سطور تُنقش، فتوضع على رفوف التاريخ أو في أدراج النسيان.

ولكن الذي ساء نفسي، وأثار مكامن حسِّي هو ما رأيته قد جرى، وما ركب نُفُوس الناس واعترى، من جراء موت مايكل جاكسون، فحزن المسلمون، وبدأ بعضُهم بالترحُّم عليه، والسؤال عن الحدث وكأنه ما كان ينبغي لمثل هذا أن يموت.

أمَّا العلماء ورثة الأنبياء، وهم بركة الله في أرضه والأمناء، وبفقدهم تئنُّ الأرض والسماء - فلم نرَ أحدًا قد اكترث بموت أحدهم؛ إلا مَن رَحِمَ ربِّي، وها هو قد مات الوالد العلامة الشيخ ابن جبرين، وكثير من الناس - ومن أهل السنة - لم يسمعوا بالخبر؛ بل وكثير من الذين سمعوه لم يعرفوا من هو هذا العالِم، ولم يسمعوا عنه من قبل.

فلننظر إلى حالنا يا إخوان، ومع أي ركب نسير، مع ركب الفُجُور والدَّعارة، أم مع ركب الصلاح والعِمَارة؟! فالحياة الدُّنيا - يا أخي - كقطار يسير بك على عجل، وأنت لا تدري في أيِّ محطة سيرمي بك للأجل، فعليك بالإيمان والتَّقوى والعمل، فلا يعقل لمسلم أن يَحزن على راقص ومغنٍّ، أفنى حياته في الغناء والرَّقص والفجور، حتى ملئت بالبلايا والفضائح والسُّفور، مخدِّرات وزنا وخمور.

ولا يعقل أنَّ كثيرًا منا لا يدري من هو العالم الربَّاني؟! فلان من العلماء مثلاً، فكثير من العلماء المعروفين قد ماتوا، أمثال ابن جبرين والعثيمين، وابن باز والألباني وغيرهم - رحم الله الجميع - وكثير من الناس من أهل السنة والجماعة لا يعرفون من هم أصلاً، فهذا دليل على غفلة الناس، وأنَّهم لا يرجعون إلى كلام العلماء، بل إنْ فكَّر أحدهم بعد جهد جهيد وبعد استيفاء آخر نقطة من عصارة مخِّه، وقرر أن يسأل عن هذه المسألة أحلال أم حرام؟

فتجده يسأل إمام مسجد الحارة، أو المفتية فلانة أو مولانا فلانًا، ما شاء الله، ما شاء الله! وربَّما كان مولانا هذا لم يفتح كتابَ فقه قطُّ، ولم يحْنِ بين أظهر العلماء ركبةً قطُّ؛ بل تجد أناسًا ربَّما يعيشون في دولة مليئة بالعُلماء، ثم أحدهم إنْ أرادَ فتوى، أخذ رقم هاتف الشيخ الفلاني في البلد الفلاني البعيد؛ ليستفتيه؛ لأنَّه أسلس بالفتوى، فتواه مستساغة للهوى والأجواف، يعطيها على حسب الطلب على طبق من ذهب - فيما يظهر له - منمقة ومزيَّنة بالبهارات وألوان المشهيات والمقبلات! نسأل الله السلامة والعافية.

قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتَّى إذا لم يُبْقِ عالِمًا، اتَّخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلوا، فأفْتَوا بغير علم، فضلوا وأضلوا...))؛ البخاري ومسلم واللفظ له.

فالواجب - يا إخوان - تجاه العلماء الرَّبانيين أنْ نعرف حقَّهم علينا، وأن نأخذ بفتاواهم؛ قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، والواجب أن ندعو بالخير لهم، وأنْ نتعلم العلم منهم، وأن ننشر علمهم بين النَّاس، وأن نَجعلهم قُدوة لنا، نقتدي بأقوالهم وأفعالهم وزهدهم وأخلاقهم، لا نكتفي فقط بالأقوال دون الأفعال كما يفعل بعضُ الناس، تجده ينكر على فلان جَهْلَه، وقد انتفخت أوداجه تكاد تنفجر: يا أخي، اصبر على الناس، أنت تدعو لنفسك أم لله؟! الناس مساكين لا يعلمون، ما بالك تنكر عليهم بهذه الوحشيَّة، وكأنَّك أمسكت سيفًا بيدك تَحْتَزُّ به رقاب الناس؟!

ثم هل كان الإمام ابن باز والعثيمين، وشيخ الإسلام وغيرهم من العلماء - ينكرون على الناس بهذه الصورة؟!

لا والذي نفسي بيده، إنهم كانوا أطيب من الطيب، وكانوا مثالاً للأخلاق والاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتشبَّث بأخلاقهم أيضًا بدلاً من التشبث بأقوالهم فقط، ولا تكن منفِّرًا، فتجعل الناس يسبُّون المذهب الذي تسلكه، ويسبون العلماء الأفاضل من أجلك.

والواجب أيضًا أن نكفَّ ألسنتنا عن العلماء، وأن نصون أعراضهم، فقد عجبت من الذين تكلموا في الشيخ وفي غيره من العلماء - رحمهم الله - زورًا وظلمًا وبهتانًا؛ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، نسأل الله العافية.

هؤلاء المتكلمون لو أنَّهم انشغلوا بإصلاح أنفسهم، وقراءة القرآن، والإقبال على الله - تعالى - وطلب العلم الشَّرعي، لَمَا قالوا الذي قالوه، بدلاً من الانشغال في تصنيف الناس وكأنهم ملوكٌ عليهم، وتحت اسم الجرح والتَّعديل، والعجيب أنَّهم لا يفرِّقون بين الصحيح والسقيم من الحديث، ثُمَّ يقولون:"الجرح والتعديل"، وتَجد أحدَهم يُفني نفسه في نشر الفتن والضَّلال بين الناس، وهو يظن أنَّه يبصرهم - نسأل الله السَّلامة - فتجده يَجمع مقتطفات ومُتفرِّقات من أقوال أهل العلم، ويَجمع بينها في ملف صوتي على أنَّها قيلت في مجلس واحد، ويَضعها في (الإنترنت) مثلاً لإسقاط فلان الداعية من أهل السنة والجماعة؛ لأنَّه ما أخذ بفتوى فلان، بل أخذ بفتوى العالم الآخر، ولربَّما حمل في جيبه بعضَ الأوراق والمستندات أو ذاكرة إلكترونيَّة، يدور بها بين الناس يتقيَّأها في وجوههم، كُلَّما ذهب إلى مجلسٍ رأى نفسه الإمام المحدث الوَرِع، وأخرج هذا للجميع، وبدأ يقول عن فلان كذا، وعن فلان كذا.

يا أخي، جهودك هذه لِمَ لا تدَّخرها لطلب العلم، ونشر السنة، وإسقاط أهل الزَّيغ والضَّلال، والرد عليهم إن استطعت، بدلاً من إسقاط إخوانك من أهل السنة والجماعة؛ لأنَّهم رأَوْا خلاف ما ترى في المسألة الفلانيَّة؟! الله المستعان!

يقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتِهم، فإنَّه من اتَّبع عوراتهم، يتَّبع الله عَوْرته، ومن يتبع الله عورته، يفضحه في بيته...))؛ [الراوي: أبو برزة الأسلمي، المحدث: أبو داود - المصدر: سنن أبي داود - الصفحة أو الرقم: 4880، خلاصة الدَّرجة: سكت عنه، وقد قال في رسالته لأهل مكة: "كل ما سكت عنه، فهو صالح"، وصححه الألباني].

أسأل الله الهداية لنا ولهم والمغفرة، وأن يرحم شيخنا الجليل، وأن يجعل مثواه الجنَّة ومثوى المسلمين، وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه: فادي نضال عمر

موقع الالوكة http://www.alukah.net/articles/67/7132.aspx

تاريخ الإضافة: 20/07/2009 ميلادي - 27/7/1430 هجري

 

 

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال