عبد الواحد بن حمد المزروع : ابن جبرين ذلك العلم

الحمد لله القائل ( أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) الرعد41
والقائل جل من قائل ( أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون) الأنبياء 44

أحمده سبحانه على قضائه وقدره، إن المصاب لجلل، ولكن قضاء الله واقع، والحمد له جل وعلا على ما قضى وقدر.

فقدت شيخي وأستاذي وعالم الأمة وفقيهها الشيخ الزاهد الحبر العلامة أستاذ الجيل في الفقه، والمعلم الأبرز في العقيدة، والعلم الذي له باعه في الأصول، والأستاذ المتخصص في اللغة، فقيه فريد، بز أقرانه وسبق زمانه، كان يرحمه الله به كالغيث أينما حل نفع، ذلكم هو شيخ الإسلام في زمانه الإمام عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين رحمه الله رحمة واسعة.

تشرفت بمعرفة الشيخ في صباي لملازمة والدي له يرحمهما الله ثم أكرمني الله بحضور بعض دروسه في الجامع الكبير في الرياض ثم جاءت المنة الإلهية بأن أتتلمذ على شيخي يرحمه الله في العام 1410هـ في مرحلة دراستي في الماجستير ، وقد حرصت على القرب منه والنهل من معين علمه مدة ليست بالطويلة ومع كونها ليست طويلة إلا أنه كان لها بصمات بقيت معي ولازمتني، استفدت منها كثيراً، ووجدت لها أثرا عظيماً، وكان لي مع شيخي عدد من المناقشات العلمية، أذكر منها مناقشتي الطويلة والتي قد يعدها بعض المشايخ من سوء الأدب من طالب مع شيخه حينما ناقشته يرحمه الله في مسألة صرف العملة المعدنية بالورقية مع الزيادة حينما كانت الهواتف التي تعمل بالعملة الحديدة موجودة وكانت العملة المعدنية رائجة ومطلوبة، وكان رأيه يرحمه الله جواز صرف العشرة من الورق بتسعة من المعدن، وكنت أناقشه في قوله هذا، وبعد أن قارب وقت النقاش ما يزيد على عشرين دقيقة قال لي يرحمه الله هذا رأيك!! عندها أمسكت، وفي ظني أنه لو كان نقاشي مع غير أستاذي وشيخي ابن جبرين لكان قد قطع أو أوقف قبل أن أكمل ثلاث دقائق.

وكنت إذا استعصى علي أمر في علم أو عمل هرعت إليه لأسأله وأجد الصدر الرحب والأسلوب السهل والعلم الرصين والمنهل العذب.

منها موقف لا أنساه حينما ناقشت صاحباً لي قد تخرج في كلية الشريعة في مسألة ولم يقنع أحدنا الآخر بما ذهب إليه، فعزمت على أن أزور شيخي في مقر الإفتاء لأسأله عما جرى الحديث عنه فأبان لي رحمه بما يشفي ويكفي.

وكنت حريصاً على سؤاله لعدة نواح الأولى حباً له، والثانية ثقة بعلمه، والثالثة تلطفه بطلابه وبمن جاء يسأله، ورابعاً حلمه وصبره، وخامساً لأنه يتأنى ويناقش الأمر من جوانب شتى، وسادساً لأن بابه مفتوح في عمله أو مسجده أو بيته، وسابعاً لأنه يجيبك ويوجهك، وثامناً لأنه يحيلك إلى المرجع من أمهات الكتب وأقوال المتقدمين، فتستفيد حكماً وعلماً، وتاسعاً لأنه يذكرك بالمتقدمين من العلماء الراسخين،وعاشراً لما تراه من النور والبهاء على محياه، وحادي عاشر لأنه لا يمل جلوسه ولا يشعرك بما لديه من ضغط أو عمل،  إلى غير ذلك من الصفات والشمائل التي مكن الله تعالى لشيخي ابن جبرين وحبا ه بها دون غيره.

تتصل فيجيب، وترسل له مكتوباً فيرد، تزور فيحيي ويستقبل، علم لا كالأعلام، وجبل أشم ارتقى قمة وتبوأها.

أتعب من بعده، حاول بعض المغرضين والجهال النيل منه فمكا كان منه يرحمه الله إلا أن تمثل:

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً ** يرمى بصخر فيعطي طيب الثمر

قدمت إليه بعد أنهيت الماجستير لأحصل على تزكية منه يرحمه الله لمواصلة دراستي في الدكتوراه إبان فترة عمله يرحمه الله في الإفتاء، فأجابني وأكرمني وكتب لي في التزكية فوق ما أستحق، وأوصى لي بما أؤمله وزيادة وهذا من حسن ظنه بأبنائه وطلابه، وسعيه وحرصه على أن يحقق طلابه ما يؤملون.

انقطعت عن دروس شيخي لانتقالي للعمل في المنطقة الشرقية فلما أتيحت لي الفرصة للمكوث في الرياض العامرة التحقت بدروسه في جامع الراجحي في شبرا، وواظبت على ذلك حتى عودتي للمنطقة الشرقية، كم كنت أشعر بسعادة غامرة عند الذهاب، وكم كنت أجد المتعة والفائدة والفتوح من العلوم والبيان، ما لا يخطر ببال.

شرفت بزيارة شيخي الكريم المفضال لمكتبنا المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بالدمام، وكان له كلمات توجيهية وتشجيعية، وكلمة دونها في سجل الزيارات أضعها وساماً لي ولزملائي في المكتب على صدورنا من رجل في مثل مقامه يرحمه الله  وكان يرحمه الله هو المبادر بالزيارة حرصاً منه على تشجيع أعمال الدعوة، ودعمها وزيارة العاملين فيها وشد أزرهم.

وفي جنازة والدي يرحمه الله قبل ثلاث سنوات حرص يرحمه الله أن يحضر الصلاة عليه لما كان بينهما من علاقة أخوية قوية، وكان ذلك في جامع الراجحي في الربوة بالرياض، ولما حضرت صلاة الجنازة بعد العصر يوم الخميس 26/5/1430هـ تقدم شيخنا ابن جبرين يرحمه الله وصلى على الجنائز إماماً وكبر يرحمه الله خمس تكبيرات لوجود طفل مع الجنائز وكان ذلك منه تعليم من صلى معه بالتطبيق العملي في هذه المسألة.

وكان لكثير من آرائه تميزاً وفقهاً لواقع يجهله كثير من المفتين، وتعليماً لمن بين يديه من طلابه، وتنبيهاًُ على مسائل تند عن الذهن، ولا يتنبه لها إلا الراسخون.

كان لصوت الشيخ المميز وأسلوبه في الطرح وحديثه في مسائل العلم وتبحره فيها لذة لا يدانيها لذة، وأنس لا يقاربه أنس، وإنك لتعجب من موضوع أو مسألة يطرحها الشيخ فتجد انصراف ذهنك لجزئية معينة في حين يفتح الله على الشيخ فتوحاً وفوائد لو قرأت الدهر كله لم تحصلها، وذلك لأنه بحر في العلوم عقيدة وتفسيراً وفقهاً ولغة وأدبا، كان لقاؤنا به يذكرنا ببقية السلف ويذكرك رؤيته وحديثه بمن سلف من العلماء الربانيين.

وإن قيل في شأن اللغة العربية:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن ** فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
قلت: إن شيخي بحر لم يصل لدره إلا القليل الموفقون ولم يحط بما لديه من علم إلا النزر اليسير فيا لله كم هي خسارة عظيمة لأمة الإسلام بفقد هذا العلم الإمام.

ولقد صدق من قال

لعمرك ما الرزية فقد مال ** ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شهم ** يموت لموته خلق كثير
نعم إن وفاة شيخنا ابن جبرين وموته يموت له خلق كثير

ولا شك أن فقد العلماء رزية وأي رزية، وملمة من أكبر الملمات وهو نقص في الأرض.

وقبل وفاته بما يقارب الشهر رأى أخي الأكبر رؤيا حيث رآى والدي في المنام مستبشراً يقول سيأتينا عبد الله يكررها، فما مضى الشهر أو قريباً منه إلا ونسمع بوفاة شيخنا الشيخ عبد الله رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته.
فاللهم ارحم شيخنا ابن جبرين ووالدي وجميع علماء المسلمين وموتاهم، اللهم واخلف على الأمة خيراً واجبر مصابنا في شيخنا واجمعنا اللهم به وبنبيك في مستقر رحمته، اللهم آمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه عبد الواحد بن حمد المزروع
أستاذ السياسة الشرعية المشارك بجامعة الملك فيصل بالدمام
ومدير المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات
بالدمام

لجينيات http://174.120.81.100/index.php?action=showMaqal&id=9028

 


أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال