العلامة ابن جبرين.. حياة زانهـا العلم وجللها الزهد وجمّلها التواضع


عبد الله الداني، نعيم تميم الحكيم ـ جدة
دمع المحبين انسكب وألسنتهم رددت «إنا لله وإنا إليه راجعون» حين لامس مسامعهم نبأ وفاة العلامة الكبير الدكتور عبد الله بن جبرين عضو لجنة الإفتاء سابقا بعد ظهر يوم الاثنين.
كثير من الناس منعوا من دخول غرفة الشيخ التي كان يتواجد فيها قبل وفاته لإلقاء النظرة الأخيرة عليه.
أحد مرافقي الشيخ ــ يرحمه الله ــ أوضح أن صحته تدهورت بعد عملية توسيع الشرايين ولم تتحسن كثيرا، كما أنه عانى من مضاعفات الالتهاب الرئوي الحاد الذي كان يعاني منه منذ فترة طويلة.
وأضاف: أن قلبه توقف عن العمل ليلة وفاته، مما استلزم توجيه صدمات كهربائية لإنعاشه فاستجاب في هذه المرة بينما عجز الأطباء عن ذلك عندما تكررت بعد ظهر الاثنين.
(الدين والحياة) التي آلامها الخبر، خصصت هذه المساحة قياما بواجب العالم الكبير وتثبيتا لقدره ومكانته.

هنا توقفنا مع مرافقي الشيخ وتلامذته المقربين ليرووا لك أيها القارئ الكريم طرفا من الأخبار والقصص والمواقف التي لا يعرفها إلا الخاصة من الناس وفيها من الزهد والتواضع وأخلاق العلماء، وبالرغم من الحصيلة التي أوردناها إلا أن ما خفي ــ بحسب العارفين ــ كان أعظم.
والرحلة تبدأ مع أحمد الجبرين مرافق الشيخ إلى الأمراء والمسؤولين الذي استهل ذكرياته مع ابن جبرين حين قال له أحد الإخوة ــ قبل تقاعد الشيخ بعام ــ لماذا لا توسع مكتبك وتغيره؟ فرد الشيخ هي ساعة وتنقضي، وكان إذا ما ذكر له التجار وأخبارهم ينشد قصيدة مطلعها:
هي الدنيا تقول بملء فيها حذار حذار من بطشي وفتكي

ومن المواقف أيضا أنه كان ينطلق في سفر من بعد الفجر لست ساعات متواصلة فإذا وصل قبل الظهر يرفض الدخول إلى المنزل والراحة، بل يتوجه إلى المسجد، وبعد ذلك يلقي دروسه من بعد المغرب إلى الساعة العاشرة ليلا دون تعب.
ومن المواقف أيضا كان أول ما يركب سيارته يذكر الله ويقرأ القرآن ويردد الآيات ولا يقطع القراءة إلا إذا قرأ عليه أحد طلابه كتابا وهو يشرحه له.
وحينما كان الشيخ في حفر الباطن جاءه أحد المواطنين من تبوك يبكي، يقول: إنني بحثت عنك في جدة والرياض والقصيم فلم أجدك، وكانت لديه مسألة طلاق، حيث أن أحد قضاة تبوك قضى بطلاق زوجته منه وكان متأثرا، فلما شرح السائل قضيتة طلب منه الشيخ رقم القاضي فاتصل به وناقشه في الفتوى التي صدرت منه، وقال: إنها خطأ فتراجع القاضي وأعاد إلى الرجل زوجته فخرج متهللا فرحا مسرورا.
ويتابع أحمد: من مواقفه الطريفة أنه كان يصف رجلا سمينا بالرجل الضخم وكان يناديه بهذا الاسم كلما دخل عنده.

مع الأمراء
وكانت تربطه مودة بالأمير مشعل بن عبد العزيز رئيس هيئة البيعة وكان الشيخ يقول له: أنتم ولاة أمرنا، فيرد عليه الأمير وأنتم العلماء وعليكم النصيحة لنا وتوجيهنا.
وفي مرة اتصل عليه أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز من إسبانيا يستفتيه عن حكم قصر الصلاة، فأجابه الشيخ بجواز ذلك، وأنها من الرخص للمسافر التي ينبغي الأخذ بها.
وكان الشيخ يذهب إلى الحرم المكي من منتصف رمضان، وكان الناس يغشونه من كل مكان فلا يمل منهم بل يستمع إليهم ويفتيهم ويقول دعوني مع الناس ويرفض تغيير مكانه إلى مكان أفضل وأكثر راحة.
ومن الطرائف أيضا أن استخدم سائقا له ليوصله إلى مكتبه حينما كان الشيخ عضوا في الإفتاء، فصار الشيخ هو الذي يوصل السائق إلى عمله ويتولى أموره.

رسالته إلى العودة
ويروي الداعية الدكتور سلمان العودة أحد المواقف التي تظهر مدى تواضع الشيخ وحرصه على تقصي الإجابة الصحيحة رغم علمه الغزير وإرجاعه أحد الأسئلة لمن هو أقل علما عندما أرسل له الشيخ سؤالا استفتاه به أحد طلابه، حيث كتب التلميذ للشيخ: «نود من فضيلة شيخنا عبد الله الجبرين الجواب عن الأسئلة الآتية: ما حكم الشرع في من قال عن مغن يجاهر بفسقه ما نصه: هذا لا يغفر الله له! إلا أن يتوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بأنه لا يعافى «كل أمتي معافى» .. لأنهم مرتدون بفعلهم هذا ردة عن الإسلام، هذا مخلد ــ والعياذ بالله ــ في نار جهنم إلا أن يتوب .. لماذا ؟ لأنه لا يؤمن بقول الله عز وجل «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا» بالله عليكم الذي يعرف أن الزنا حرام وفاحشة ويسخط الله هل يفتخر أمام الناس ؟ أمام الملايين أو مئات الألوف من الناس؟ لا يفعل هذا أبدا ؟»
فبالله عليك يا شيخ عبد الله الجبرين ما حكم الشرع فيمن قال ذلك ؟ وهل يعد من الخوارج ؟ وهل نحذر منه نصيحة لله ولرسوله وللمسلمين ؟ وهل نصرح باسمه ؟ علما أنه قد نوصح ولم يرجع.
وما حكم الشرع فيمن فرق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وقال أيضا : «إن الشيخ عبد العزيز بن باز ــ رحمه الله ــ قد وافقني على ذلك، علما بأن الشيخ ــ رحمه الله ــ قد سئل عن ذلك، فقال لم أوافقه على ذلك، بل قال الشيخ: «الفرقة الناجية هم الطائفة المنصورة» والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقام الشيخ بعد ذلك بتوجيه الرسالة لي بعد كتابة التعليق وبعثها إلي، ونص التعليق هو: «عليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد، أرى أن تحال إلى فضيلة الشيخ سلمان بن فهد بن عودة؛ ليتولى الإجابة عنها، فله ــ وفقه الله ــ اختصاص بهذه المواضيع، ويمكن تولي مناقشة هذه المسائل معه، وسوف يقتنع السائل بما لديه من الجواب إن كان قصده الصواب، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم 22/12/1422هـ، عبد الله عبد الرحمن الجبرين.

مزايين الإبل
أما أستاذ السياسة الشرعية في المعهد العالي للقضاء الدكتور سعد بن مطر العتيبي فقال: أعرف عن الشيخ أنه عالم متحرك ينتقل من مكان لآخر حتى يلقي الدروس والمحاضرات فيفيد بها الناس، وأذكر أني حسبت له شهريا في أحد المرات 45 درسا في الشهر، حيث كان لايتوقف عن الدورس طوال اليوم إلا وقت الصلاة ووقت الطعام، وكان لايرد سائلا. كما عرفت عنه أنه كان كثيرا ما يزكي الفقراء والمساكين ويساعدهم، كما أنه قريب من كل الناس بلا استثناء، وأذكر أنه حرص على حضور مزايين الإبل لقبيلة قحطان رغم أنه لاينتمي لها وألقى هناك كلمة توجيهية تحث على نبذ العصبية القبلية، وهو فوق هذا وذاك حريص على الاحتساب ومن أهل الغيرة والصلاح.

بيت الطين
وبحسب أحد تلامذة الشيخ الذي رفض ذكر اسمه، فإن الشيخ كان شديد التواضع والزهد، أنه لما انتقل إلى الرياض وانتظم في معهد إمام الدعوة العلمي وكان يدفع له مكافأة شهرية فكان يدفع مافضل عن حاجته لوالده الذي ينفق على ولده وولد ولده، وبعد ثلاث سنين اضطر إلى إحضار زوجته وأولاده واستئجار منزل صغير وتأثيثه والنفقة عليهم فكانت المكافأة تكفي لذلك رغم قلتها، لكن مع الاقتصار على الحاجات الضرورية، وبقي يستأجر منزلا بعد منزل لمدة ثماني سنين فبعدها أعانه الله على شراء بيت من الطين والخشب القوي فهناك استقر به النوى، حيث قام فيه 17 عاما يعيش في وسط من الحال لا إسراف فيه ولاتفتير، ولم يتوسع في الكماليات والمرفهات لقلة ذات اليد ثم في عام 1402 هـ انتقل إلى منزله الحالي الذي أقامه بمساعدة بنك التنمية العقارية وعاش فيه كما يعيش أمثاله في هذه الأزمنة حتى وفاته.

في مركز الشرطة
ويتذكر الداعية محمد حسان (أحد تلامذة الشيخ) مواقف للشيخ مع شرطي، حيث كان في سيارته فأوقفه أحد عناصر الشرطة وطلب منه أوراق السيارة، وكان الشيخ لا يحملها فقرر الشرطي أن يصطحب الشيخ إلى مركز الشرطة فذهب معه الشيخ دون أن يفصح له من هو وما مكانته وعندما وصل إلى مركز الشرطة قفز الضابط المناوب وسلم على الشيخ فتعجب الشرطي ثم سأله عن سبب مجيئه فأخبره فاعتذر منه وقرر الضابط أن يضع العسكري بدلا منه لارتكابه هذا الخطأ مع الشيخ فرفض بن جبرين، وخرج من مركز الشرطة دون أن يتذمر أو يبدي أي انزعاج وهي عادته في التعامل مع الأمور بحكمة وتواضع كبيرين.

يمرض أحد مرافقيه
الأكاديمي وأحد تلامذته الشيخ الدكتور خالد بن عبد الرحمن الشايع قال: تحضرني بعض المواقف مثل إكرامه لطلاب العلم وإعطاءهم ميزة واضحة تبرز في جوانب عديدة، فهو يقابلهم باللطف والإجلال مع أن كثيرا منهم في عمر أبنائه ومع هذا كان رحمه الله يعاملهم معاملة التقدير.
ويضيف الشايع كنا نجلس في الدرس المقام في منزله وتكون مقدمة البيت ممتلئة وربما حضر بعض المشايخ الذين هم أساتذتنا وتلامذة للشيخ فإذا حضروا فإن الشيخ يقدمهم ويجلسهم بجواره ومن هؤلاء الشيخ سعد الحميد.
ويستذكر الشايع قصة حصلت في باكستان إذ يقول: في إحدى المرات كان الدكتور عبد السلام بن برجس العبد الكريم مصاحبا للشيخ في سفر إلى باكستان، وكان أحد المرافقين ــ وهو من الإخوة الباكستانين ــ مريضا وقدر أنه يستفرغ وكان بجوار الشيخ فأصاب الشيخ بعضا من ذلك، فكان الشيخ يترفق به ويمسح عنه الأذى ويقوم مقام الممرض له.
واستدرك الشايع كان درسه لا يخلو من حكاية الخبرات والإرشادات التربوية وصلنا لآداب الجمعة، وقد ذكر ذات مرة في أحد دروسه أن الناس في السابق كانوا يتهيئون لصلاة الجمعة من بعد الفجر ولا يرجعون إلى منازلهم إلا بعد أذان المغرب.
وسئل ذات مرة عندما ألح عليه أحد طلبة العلم في كم تختم القرآن فأجاب كنت أختمه خلال أسبوع، لكن مع كثرة المشاغل والدروس والقراءة في المؤلفات والمسائل صرت أختمه في 20 يوما.
وأيضا مما تداوله الناس أن الشيخ كان حسن الصوت فأصيب بعين وسئل ذات مرة عن ذلك فقال: «في عام 1362هـ كنت مع أقراني متميزا في القراءة فأصبت بمرض حتى صرت لا استطيع الكلام وثقل ذلك عليّ، وكنت أتكلم بالإشارة ومكثت على ذلك فترة من الزمن حتى تمت الرقية لكن آثارها بقيت في حياتي».
ومضى الشايع قائلا: في إحدى المرات أنابه الشيخ بن باز رحمه الله وكان ينيبه إذا سافر وكنا نحضر إليه فكان الشيخ العبد السلام يقرأ عليه منظومة «نونية ابن القيم» التي تبلغ ألف بيت، فكان الشيخ يستمع إليه ويشرحها وفي أثناء ذلك أغفت الشيخ إغفاءة يسيرة واستمر الشيخ العبد السلام في قراءته، لكن الشيخ عاد وشرح تلك الأبيات ولم يخطيء فيها مع إغفاءته، ومازلت أتذكر اختلافي إليه في بعض الطرق الخلفية للجامع الكبير حينما كان الشيخ يصحح في رسالته للدكتوراه التي أنهاها عام 1407هـ وكانت في شرح الزركشي على الخرقي.

الشباب هم المقدمون
ويستذكر الدكتور أحمد البناني عضو التدريس في جامعة أم القرى موقفا حصل له مع الشيخ بن جبرين، حيث يقول: كان الشيخ يتجاوب مع دعوات الشباب بشكل خاص ويعطيهم نوعا من الخصوصية، وأذكر عندما كنت مشرفا على مجموعة من الشباب في القنفذة ووجهنا دعوة إلى الشيخ فأتى إلينا رغم مشاغله وارتباطاته العملية فكان حريصا على القرب من الشباب، يعلمهم بخلقه وتواضعه أكثر من ثقافته وعلمه، وكان تأثير التطبيق العملي واضحا على الشباب كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم (كان خلقه القرآن). وأضاف البناني: كان محبا للشباب ويغشاهم في أماكنهم، وكان يتحمل المشاق لأجلهم وهذه نادرة من النوادر التي يحرص عليها العلماء الربانيون.


http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/2009...B1%D9%8A%D9%86

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال