أحمد بن مشرف الشهري : رحل الذين أحبهم، فعليك يا دنيا السلام

هُوَ المَوْتُ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ وَمَهْرَبُ       مَتَى حُطَّ ذَا عَنْ نَعْشِهِ ذَاكَ يَرْكَبُ

كتب الله الموت على الصغير والكبير، والشريف والطريف، والعالم والجاهل، ولكن لا شك أن المصيبة بالعلماء مصيبةٌ كبيرة؛ وذلك أن بفقْدهم يُفقَد العِلم، الذي هو ميراث الأنبياء، وقد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتَّخذ الناسُ رؤوسًا جهالاً، فسُئلوا فأفتَوْا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا)).

بهذه الكلمات نعى العلامةُ الوالد، سماحة الشيخ الدكتور عبدالله بن جبرين - الشيخَ "بكر أبو زيد" - رحمهما الله تعالى.

لكأنما ينعى الشيخ - رحمه الله - نفسَه، ولكأنما خناجر الألم تطعن قلوبَنا طعنًا، وتفتك بأفئدتنا فتكًا، ونحن نسمع هذه العبارات عبْر صوتِ الشيخ ذي النبرة الثقيلة، عبر الملفات الصوتية والمرئية المسجلة.

ماذا فعل بنا - رحمه الله - عندما رحل؟! لقد رمى أحبابَه من قوس واحدة وبسهم واحد، وفُجعنا برحيله، رحل وقد ملأ قلوبنا أسى وحسرة على فراقه، رحل ونحن نعلم أن رحيله يعني رحيلَ جبل أشم من العلم والفقه والنظر.

أوَّاه يا ابن جبرين! أتذكَّر كلماتِه عندما يفتتح كثيرًا من دروسه، وهو يتغنى بقول الشاعر، وهو يرى أن هذا البيت متمثلاً فيه:

أَنَا العَبْدُ الَّذِي كَسَبَ الذُّنُوبَا وَغَرَّتْهُ الأَمَانِي أَنْ يَتُوبَا

أتذكَّرُ صورته ووقاره، فأتذكَّرُ الأدبَ في أسمى صورِه، أتذكَّره متواضعًا، ليِّنًا هينًا في أيدي الناس، أتذكَّر شيخًا كبيرًا لم أرَ شيخًا أصدقَ حياءً منه، أتذكره وهو يؤدي السُّنة الراتبة وقد تجمهر طلابه حول كرسي الدرس، فيستحيي من أن يُفسح له طلابه من بينهم الطريق، فيلتفُّ من خلف الصفوف؛ حتى يأتي من خلف الكرسي؛ حياءً وأدبًا.

كان يرى أنْ لا فضل له على أحد، متواضعًا أشد ما يكون التواضع، عندما تتحدث معه، يُخَيَّل إليك أنك أنت العالم لا هو، لقد رأيتُه في إحدى المقابلات التلفازية في بيته، وكان المقدِّم بجواره، فيميل الشيخ بجسده كهيئة من يسارُّ شيئًا لمن بجانبه، ويربت على يد المقدم كالمستجدي يستأذنه في أن يقول شيئًا خطر بباله.

كان يأبى أن يقبِّل أحدٌ رأسَه؛ بل قد يخنق أو يدفع مَن يفعل ذلك، وقد رأيته - واللهِ - في حفل إحدى الدورات، وقد أتاه شيخٌ آخر أقل منه سنًّا يريد أن يقبل رأسه، فتدافعا، كلٌّ منهما ممسك برأس الآخر ورقبته، وكل يريد أن يقبل رأس الآخر، حتى تمكن منه الشيخ ابن جبرين وقبَّل رأسه.

كان - رحمه الله - من أقوى الناس في الحق، فعندما كنا في أحد دروسه سُئل من كان يقرأ على الشيخ - وقد كان دكتورًا -: لماذا لا تقرأ كثيرًا من الأسئلة التي تعطى للشيخ؛ كي نستفيد ويستفيد الناس؟ فأجاب : الشيخ لا يتحرَّج من الإجابة عن أي سؤال، ونخشى أن يُضرَّ بسبب الإجابة عن أحد الأسئلة.

كان - رحمه الله - لا يعيش لنفسه، لقد نذر نفسه أن يعيش لأمَّتِه، يتفقَّد أحوال المسلمين في كل مكان، لقد كان يتألم ألمًا شديدًا عندما يعلم أن هناك أمًّا رُملت، أو طفلة قُتلت، أو مجاهدًا أُسِرَ.

أهل البدع والضلالات يكرهون الشيخ كثيرًا؛ لأنه كان كالصاعقة عليهم، نذر نفسه لردِّ شبههم، ودحض باطلهم، وكشْف زيغهم، بلا ملل ولا كلل، حتى أقاموا عليه الدعاوى لدى بعض السلطات الغربية.

لم يكن له حجَّاب يحجبون عنه الناس، الكل يدخل عليه، هذا يسأله، وهذا يطلب منه شفاعة، والآخر يطلب معونة وصدقة، وهو يجيب هذا، ويشفع لهذا، ويعطي هذا، لسانُ حاله يقول:
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهْ
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ لَجَادَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ سَائِلُهْ
هُوَ البَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ فَلُجَّتُهُ المَعْرُوفُ وَالبَحْرُ سَاحِلُهْ
تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَوَ انَّهُ دَعَاهُ لِقَبْضٍ لَمْ تُطِعْهُ أَنَامِلُهْ

أمَّا جَلَدُ الشيخ، فحدِّث ولا حرج، يشرح الدرس والثاني والثالث، يتململ الطلاب ولا يتململ هو، يتضايق الحاضرون وهو شامخ مبتسم، يعطي مما أعطاه الله، لا يقف، "ولا يتتأتأ"، بحر لا ساحل له، عندما يتكلم في فنٍّ، يظن سامعُه أنه لا يُحسن غيره.

لما نظرتُ إلى نعش الشيخ محمولاً على الأكتاف، شككت في قلبي: أهو في مكانه، أم أنه هو المحمول؟! تفقدتُ نفسي، لم أظنَّ أنني سأقف في هذا الموقف.

وأنا أنظر إلى جنازته مرَّ شريطُ الذكريات أمام عيني، تذكَّرتُه وهو على كرسيِّه يثني على الله ثناء الأبرار، تذكرت تلك الابتسامة الجميلة المؤمنة المرسومة على فِي الشيخ الجليل، تذكرت لحيته التي كساها الشيبُ، حتى لا تكاد ترى فيها شعرة سوداء، تذكرته وهو يقرأ في صلاة الفجر: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1]، تذكرته وقد أتى مسرعًا من منزله لصلاة المغرب، ورائحةُ الإفطار تنبعث منه وقد كان صائمًا، تذكرت حركة يده وأصابعه وهو يشرح دروسه، ورأيت الناس يجودون بأنفسهم حتى يتَّبعوا جنازته، رأيت الحب الحقيقي الذي هو أوثق عُرى الإيمان، ورأيت أعظمَ النفاق والفساد من القنوات العربية، وهي تنقل تأبين جنازة مايكل جاكسون، ولم يعرضوا خبرًا عن وفاة ابن جبرين! ولا يضره أن فعلوا، ولكنها إلماحة لاختلال الموازين.

هكذا هي الحياة، وهذا هو الواقع، وما بين هؤلاء وهؤلاء، كما بين المشرق والمغرب، وما بين الحق والباطل.

رحمه الله رحمة واسعة، ذرفت العبرات لفراقه، وعجزت الكلمات عن وصفه، ولكننا نقول كما قال الشاعر:
لَعَمْرِي لَقَدْ غَالَ مَنْ أُحِبُّهُ وَكَانَ بِوُدِّي أَنْ أَمُوتَ وَيَسْلَمَا

اللهم إنا نسألك أن تغفر لعبدك الضعيف، المقبل عليك، عبدالله بن جبرين، اللهم إنا لم نعْلمه إلا داعيًا إليك، ومرغِّبًا فيك، ومنافحًا عن دينك، وساعيًا لمرضاتك، وراجيًا رحمتك، ومخلصًا لك، اللهم فأقرَّ عينه بعفوك ومرضاتك، ومتِّع عينيه بالنظر إلى وجهك، برحمتك يا ربنا وعفوك.

 

أحمد بن مشرف الشهري

 

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال