د.عبدالله بن صالح الخليوي : بقية السلف

قابلته في مجلس أخي في ليلة من ليالي رمضان ولم أقابله قبل ذلك فلم أتعرف عليه من أول نظرة... لم يكن متصدرا المجلس في جلوسه أو كلام.. هش وبش وأثنى ودعا فعرفته وهممت بتقبيل رأسه بل أصريت فصدني برفق وأبى وامتنع. عجيب ذلك الرجل جد عجيب.. جمع السمت كله والخلق كله والتواضع كله والبساطة كلها والعلم كله والعمل كله..ابن جبرين علم في رأسه نار وإمام وعلامة بل هو شيخ الإسلام في عصره وفقيه زمانه خطبته الدنيا وتقربت إليه وتزينت له وتجملت فصدها وركلها كما يركل الطفل الكرة ومضى في طريقه الذي ارتضاه لنفسه واطمأنت إليه سريرته، مضى كما عهدناه شامخا محلقا وقورا بشوشا يبكي أوضاع المسلمين ويدعو لهم ليل نهار وقته ليس ملكه ، لم يجعل لنفسه إلا فضول الأوقات أما الباقي فللناس وهكذا تكون الهمم التي لا يطيقها إلا الكبار والكبار فقط. رحل ابن جبرين وارتحل ولا بقاء لحي، لكنه ارتحال من نوع آخر لرجل فريد قل أن يجود الزمان بمثله،  رحل في يوم مشهود سكنت فيه ذرات الغبار التي خوفونا بها قادمة من أرض الرافدين، أجل سكنت وبطأت سيرها –بأمر ربها- لتسارع الجموع الغفيرة من كل أنحاء المملكة في تأبين هذا العلم الهمام في يوم مشهود لن يمحي من ذاكرة الناس، يوم طأطأت له الرجال هاماتها إجلالا وتقديرا وإكراما وتبجيلا وعرفانا بالفضل واعترافا بالإمامة في الدين، يوم من أيام السنة لكنه فريد بكل المقاييس،  ذرفت فيه العيون المودعة  وكظت العيون وحولت من كل بيت مأتما لرحيل فذ من الأفذاذ وعلم من الأعلام ورأس من الرؤوس وقامة من القامات.

رجل ما عاش لنفسه أبدا، أنفق وقته بل عمره كله في خدمة الناس وقضاء حاجاتهم ونشر الهدي بينهم وحمل لواء السلف الصالح، لم يجزع على شيء فاته من الدنيا أبدا، عاش مطمئن البال مرتاح الضمير لم يستهوه جر العباءات ولا مداهنة الكبار ولا مزاحمة أرباب الدنيا ولا التصدر في المجالس ولا التربع فوق منابر الإعلام. رجل عرف ما يريد وكأنه يرمق كل يوم جنة الرحمن ويراها بأم عينه فيغذ السير لها غير آبه بلعاعات الدنيا وحظوظها الزائلة الفانية. كان يدرك أن الدنيا ليست بدار مقر وليست لحي سكنا فأعرض عنها فجاءته راغمة جاثمة. يالله كم لهذا الرجل من مكانة عظيمة في قلوب الناس تعدل كل حظوظ الدنيا وقناطيرها المقنطرة من الذهب والفضة والأنعام والحرث.

هو زاهد بكل المقاييس لاشك في ذلك وليس حديث العاطفة التي فرضها الموقف بل هو سيد الزاهدين وسيد العلماء الربانيين وبقية السلف وملك البساطة التي لا تكلف فيها. أحبه الناس فبادلهم حبا بحب ومودة بمودة وقربا بقرب.

 كم سمعنا صوته إذا اجتاحت المسلمين جائحة، كم سمعنا صوته يوم أن خفتت أصوات، لم تكن حسابات ابن جبرين لتنطبق على كثير من أهل الدنيا فكانت جراحاته تتكلم قبل لسانه وكانت مواجعه تئن قبل يراعه، كان ينطق بالحق ويجاهر به ويتقطع ألما على إخوته في طول الدنيا وعرضها، لا يجامل في الحق ولا يداهن. ترك الجامعة وهو الجامعة وترك الإفتاء وهو الإفتاء. لم يقدم اعتذارا ولم يدخل على ولي الأمر ولم يبرر مواقفه بل مضى في طريقه وعينه ترمق شيئا لا نراه وقلبه يحثه على السير وهمته تفوق الهمم وعزيمته تناطح الجبال.

كانت نفسه تشرئب للنعيم المقيم، النعيم السرمدي الأبدي، النعيم الذي لا ينفد والصحبة التي لا تمل والكوثر ورؤية الله عز وجل، فتصرمت آماله من الدنيا وقطع حبال ودها وسار مؤمنا موقنا واثقا عازما متطلعا متحفزا مشتاقا فكان في جيل الكبار، كان عملاقا وسط غابة من الأقزام ينظر إلى تهافت الناس على الدنيا فيعجب من هفواتهم وسقطاتهم وعثراتهم. هذا العملاق السلفي الفذ ما انتصر لنفسه قط إلا أن تنتهك محارم الله، كان يذكر مشائخه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة فتدمع عينه ويبكي قلبه فيترحم عليهم ويذكر شمائلهم ويدعو لهم. كان ابن جبرين بسيطا يبهرك في بساطته وسماحته فهو السماحة والفضيلة والطهارة والنبل، كان لا يمتنع من دعوة آحاد الناس، مضى سحابة عمره معلما وموجها وواعظا ومذكرا حتى ثنى الرجال عنده الركب وتزاحمت العقول لتهل من نبعه الفياض المتدفق.

هنيئا لك والدي هذا الحب الذي لا مثيل له في دنيانا، هنيئا لك هذا القبول بين الناس، هنيئا لك هذه الجموع التي احتشدت منذ الصباح الباكر لتلقي نظرة الوداع الأخير على معلم الناس الخير. ما أحبك الناس لمنصب ولا لجاه أو مال بل كان حبا خالصا من القلب للقلب، حبا في الله ولله.

وهاأنذا أسطر بعضا بل نزرا يسيرا من حياة الشيخ وأختزلها في كلمات بسيطة ولو استطردت لاحتجت إلى مجلدات، حياة مباركة امتدت أكثر من سبعة عقود من الزمان ما كل فيها الشيخ ولا مل يتنقل في كل مكان وينشر ويعلم ويوجه ويصبر ويحتسب، حياة لا يطيقها من آثر الراحة، ولا يطيقها من خبت به همته، ولا يطيقها من تعلق قلبه بالدنيا، ولا يطيقها من تكبر وتجبر، كان يذهب إلى الناس ولا ينتظر قدومهم، يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوقد في القلوب مواعظا وفي العقول علما راسخا.

 ابن جبرين أمة في رجل وفقده طامة من الطوام ومصيبة من المصائب فالعلماء ورثة الأنبياء وبموتهم يقبض العلم، والشيخ من الجيل الرائد الذي عاصر الدعوة في زمن الشيخ العلامة مفتي الديار السعودية محمد ابن إبراهيم رحمه الله فكان رائدا من روادها، وبرحيله فقدنا ركنا ركينا  وعلما عظيما وسيرة عطرة وحكمة وقادة ومربيا فاضلا ونفسا سامقة. رحل وكلنا راحل ومضى وكلنا ماض وغادر وكلنا مغادر وودع وكلنا مودع وبلّغ وقل فينا من بلغ وعلّم وقل فينا من علم ونصح وقل فينا من نصح  وأعرض عنها وكلنا أقبلنا عليها وصدها واحتضناها وردها وقبلناها وحلق  وهبطنا وشد المئزر وأرخينا وذكر الله  ونسينا أو تناسينا ولزم الغرز وتركنا وسار على المحجة وتباطأنا.

 رحمك الله شيخنا رحمة الأبرار ومعذرة منك بعد مماتك فهذه الكلمات هي بعض ما تختزنه قلوبنا لك من ود وحب وتقدير وإجلال وإلا فقدرك لا تحتويه الكلمات ولا تعبر عنه المجلدات يا بقية السلف

د. مهندس/ عبدالله بن صالح الخليوي

akheliwi@kacst.edu.sa

 

لجينيات http://174.120.81.100/index.php?action=showMaqal&id=8941

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال