مشعل عبدالعزيز الفلاحي : في رحيل ابن جبرين

 في يوم الاثنين 20/7/1430هـ، في الساعة الثانية والربع ظهرًا، غادر العَلَم ابن جبرين الدنيا، رحل من الدُّنيا في عمر تجاوز الثمانين عامًا، رحل وقد ترك رسالةً لكل المصلحين من بعده تقول: قوموا أيُّها القاعدون، فيا لله! ما أروعَ الكبارَ بمثل هذه السير العطرة! وما أعظمَ أثرَهم في حياة الأمم والأجيال! وإنِّي والله كلَّما مرت تلك الصورة في ذاكرتي، مَرَّ معها في الذكرى كتاب وقلم، ومسجد وطالب، ولا تستطيع الذَّاكرة أن تَمنحني صورة أخرى، وقد حاولت جاهدًا كدَّها، فلم تتمكن أن تعرض لي غير ما استقر فيها، وهذا وأنا بيني وبينه مسافات طوال، وأحسب أنَّ هذه الصورة هي أوَّل صورة تبدو في ذاكرة كلِّ إنسان على ظهر الأرض، وثَمَّة صورٌ أخرى رائعة وكبيرة، بحجم هموم الرجل، لم أتمكن من رُؤيتها، قد رآها غيري ممن هو أكثر مني صلة وقربًا.

 

رحل ابن جبرين، وترك عبئًا ثقيلاً قوامُه ستون درسًا في الأسبوع، ما نسبته: اثنا عشر درسًا في اليوم الواحد، فأيُّ حمل تركه؟! وأيُّ ثقل أبقاه؟! وأيُّ مسؤولية خلَّفها هذا العَلَم؟! ولكل هذا؛ فإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا ابن جبرين لمحزونون.

 

رحل ابن جبرين وقد ترك هِمَّة تتهاوى الجبالُ عن حملها، وقامة تتقاصر الهمم عن مطاولتها، رحل وأبقى في ذاكرتي صورة كهل في السن شاب جلد في الجهد، أراه في كل بلد وكل قطر يؤدي رسالةَ العلم، ويَجهد في إحياء آثار الكبار.

 

رحل ابن جبرين وهو من أكثر الناس حبًّا لانتشار العلم، وتوسيع دائرته في الأُمَّة، وبرهان ذلك عندي: أنني كثيرًا ما رأيت رسالةً أو كتابًا أو منشورًا، إلاَّ وتقريظ هذا العَلَم يدفع القرَّاء إلى الإقبال على سطور العلم بين دفتي ذلك الكتاب، في زمن تجافى عن هذا الدعم كثيرون بظروف لا تعدل شيئًا من ظروف الشيخ وكثرة همومه.

 

رحل ابن جبرين ولم تتغيَّر كلمته عن هدوئها وبساطتها، وجمال رسالتها ولين حرفها، منذ أن عرفته الأُمَّة إلى تاريخ لحظة وداعه من على ظهر الأرض، رحل وهو يقول في تقرير ذلك: إنَّ الحق لا يحتاج إلى جلبة وصوت، بقدر ما هو بحاجة كبيرة إلى تقوى وإصلاح، وحسن نية ولين عبارة فحسب.

 

رحل ابن جبرين والورع يملأ قلبه، ويتدفَّق على لسانه، وشاهد ذلك عندي فتواه التي يقول فيها رأيه مؤيَّدًا بدليله من الكتاب والسنة في أيسر صورة، وأجمل عبارة دون جلبة على آراء الآخرين.

 

رحل ابن جبرين بسيطًا في حياته للدَّرجة التي تدعو للأُسوة بحق، بسيطًا في لباسه، وطعامه، وكلامه، وكل شيء من لحظات حياته، ولم ينقص ذلك من قَدره شيئًا، بل والله هو بعض ما أورده إلى هذه المعالي.

 

رحل ابن جبرين بعد أنْ قلب المحنة منحة، وجعل من العقبة فُرصة، وكتب أنَّ الصِّعَاب يركلها الكبار كأنَّها عثرات على الأرض فحسب، فلم يكُن صوت الشيخ هكذا، وإنَّما أصيب في باكر عمره، وتراه وهو يجهد في الحديث، ويعاني، ومع ذلك لم تقف هذه العقبة في طريق تميُّزه، بل جعلها هي ميزته التي ما أن نسمع تلك البُحَّة حتى نقول جاء ابن جبرين.

 

رحل ابنُ جبرين ولم أرَ اجتماعًا على فضيلة إلا وهو فيه، ولا تم رأي في مسألة كبيرة إلاَّ وهو بعضها، ولا خُذِلَ عالِمٌ في لحظة من زمن إلاَّ وامتد مدادُ قلمه يُزكِّيه ويرفع مقامه، ولا كان للأمة تطلُّع إلى رأي صادق جادٍّ غير متأثِّر بأحد إلا كان هو صاحبه.

 

 

أشهد بالله - تعالى - أنَّني ما سمعت على طول عمري هامزًا ولا لامزًا، ولا ذاكرًا الشيخ بسوء في موقف طيلة حياته، وأحسب أنَّ هذا هو رأي كل من عاش رحلة الشيخ، وليس أنا وحدي.

 

رحل ابن جبرين وكرسيُّه في الجامع شاهد على رسالته، وكنوز علمه مذكِّرة بفضله، وطلابه على ظهر الأرض مدينون لشيخهم بالفضل بعد فضل الله - تعالى - عليهم، رحل بعد أن شهدت أرض هذه البلاد بأثر قدمه، وهو راحل إلى الناس يبلِّغهم رسالةَ ربِّهم، تاركًا مقولة القائل: العلم يُرْحَلُ إليه، ولا يرحل إلى الناس.

 

وأخيرًا:

رحل ابن جبرين وحَيِيَ برحيله أناس كثيرون، حَيِيَ برحيله طالبُ علم قاعد في بيته، معزول عن التأثير في حياة مُجتمعه، وأمته، حيي برحيله عالم محبوس في مجتمعه لم يكُن له في زمنه امتداد الكبار، حيي برحيله عالم وطالب علم رَأَوْا للعلم بهجة وثورة، فارتفعوا عن الناس في لحظة غفلة، حيي برحيله صاحب جاه، وأب، وجار، وكبير في قومه، كل هؤلاء حَيُوا من جديد، وقد كان الشيخ بينهم ولم يُكتَب له من التأثير عليهم، فما انتبهوا إلاَّ وجنازة الشيخ على الأعناق، وهو مُسَجًّى في كفنه، راحلاً من الدُّنيا، فأقبلوا إلى المقبرة، فإذا بالجموع غفيرة في وداع عالمهم، فبكوا وتأسَّفوا كيف لو كان أحدهم هو الراحل؟ وقد شح بعلمه، وقل جهده، وتقاصرت همته، فما أنْ دفنوا الشيخ وعادوا إلى بيوتهم إلاَّ عاد كل واحد منهم يكتب لحياته مشوارًا جديدًا وروحًا أخرى، فالحمد لله على موت الشيخ، والحمد لله على حياة الموتى، وهكذا هم الكبار إن كانوا أحياءً في وسط الناس، أحيوهم، وإن كانوا موتى، أحيوهم بعد رحيلهم.

 

 

مشعل عبدالعزيز الفلاحي
 

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال