محمد بن صالح المنجد : محطات في حياة العلامة ابن جبرين

 

 الحمد لله القائل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَنَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚوَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سورة الرعد: 41].

ونقصان أطرافها كماذكر ابن عباس وغيره من علماء السلف: "ذهاب علمائها وفقهائها وخيارأهلها".

وهذا أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية, حتىقالابن عبد البر عن هذا القول: "تلقاه أهل العلم بالقبول ".

وكانوايقولون: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليلوالنهار".

وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُمِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَالَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوافَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» [رواهالبخاري].

فموت العلماء من أعظم المصائب على الإطلاق, وقد فقدت الأمةالإسلامية بوفاة الشيخ عبد الله الجبرين عالماً جليلاً , ومربياً عظيماً، وأباًحانياً، وفقيهاً ومفسراً، وأصولياً، ونحوياً، وأديباً، وقدوةً وإماماًكبيراً.

وصل علمه إلى الأفاق, وتتلمذ على يديه وتخرج من مدرسته علماء وفقهاءوطلاب علم من شتى أنحاء العالم، وقد دفن بوفاته علم غزير.

فـ(الْعَيْنَتَدْمَعُ , وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ , وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا, وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا شيخنا لَمَحْزُونُونَ).

لم يكن الشيخ فقيد أسرة،ولا قرية، ولا مدينة، ولا قطر، ولا إقليم، بل هو فقيد أمة بأسرها.

فَما كانَ قَيسٌ هُلكُهُ هُلكُ واحِدٍ *** وَلَكِنَّهُ بُنيانُ قَومٍتَهَدَّما

ها قد رحل الشيخ وقد قارب الثمانين عاماً قضاها في العلموالدعوة والعبادة، جلس للتدريس عشرات السنين، ودوّن المؤلفات النافعة، وتولىالإفتاء، وظهرت صنائع المعروف على يديه، فعمّ نفعه وكثر خيره..

أهكذا البدرُ تُخْفِي نورَهُ الحُفَرُ *** ويُفْقَدُ العلمُ لاعَيْنٌ ولا أَثَرُ
خَبَتْ مصابيحُ كنا نستضىءُ بها *** وطوّحَتْ للمغيبِالأنجُمُ الزُّهُرُ
واستحكمتْ غُرْبَةُ الإسلام وانكسفتْ *** شمسُ العلومِ التييُهدى بها البَشَرُ

لم يمت مَن ورّث هذا العلم الزاخر والأدب العظيم،ومن أراد الشيخ سيجده في الكتب والدروس المسجلة والفتاوى.

مَوتُ التَّقيِّ حياةٌ لا انقِطَاعَ لها *** قد مات قَومٌ وَهُم فيالنَّاسِ أحيَاءُ

لقد ولد الشيخ في بيت علم وفضل؛ فكان أبوه وجدهوأبو جده من حفظة كتاب الله، وكان جده الأكبر حمد ابن جبرين ذا منزلة ومكانة فيقومه؛ فهو خطيبهم وأميرهم وقاضيهم، مع ما رزقه الله من السعة في العلم والمال، ولهمخطوطات وشروح أورثت الشيخ عبد الله حافزاً تاريخياً، وإرثاً عائلياً فيالعلم.

وقرأ الشيخ على أبيه بعض العلوم كالفرائض والنحو وبعض متون الحديثكالأربعين النووية والعمدة.

ولقد تلقى الشيخ من والده تربية إيمانية عالية،ولقد أخبرني أن والده اعتاد القيام آخر الليل، فكان ينام مبكراً، ويستيقظ قبل الفجربساعتين غالباً، وربما ختم القرآن في ليلة واحدة.

وكان يوقظ أبناءه قبيلالفجر بنصف ساعة ليعودهم الصلاة في هذا الوقت المبارك ولو شيئاً يسيراً.

لقدكان الشيخ رحمه الله تعالى أعجوبة وآية من آيات الله في الذكاء والعلم، وكان الشيخعصاميا صاحب همة عالية: ففي سن السابعة عشر من عمره طلب من قاضي البلد الشيخ أبوحبيب محمد بن عبد العزيز الشثري أن يقرأ عليه، فاشترط عليه إتمام حفظ القرآن، فتفرغالشيخ لقراءة القرآن وحفظه، وكان قد بقي عليه نحواً من 18 جزءاً، فحفظها في نحوسبعة أشهر كما حدثني بذلك.

وكان الشيخ حريصا على المذاكرة مع الأقران،وكان يقول: "الطالب الذي لا يجلس مع من ينافسه ويسابقه يغلبعليه التكاسل والتثاقل وعدم الاهتمام، فإذا كان هناك من ينافسه فإنه ينبعث وتقوىهمته ويكثر من القراءة ومن البحث".

وذكر لي أنه في أثناء انتقاله للرياض كانفي ضيافة الشيخ الشتري لأنهم استأجروا للشيخ منزلين، منزلاً للعوائل، ومنزلاًللرفقاء،قال لي الشيخ: "وفي السنة التي بعدها رأيت أناوأحد زملائي أن نستقل في منزل صغير لكثرة من يغشى الشيخ من الزوار الذين لا نتمكنمعهم من المذاكرة والمدارسة".

وكان الشيخ مجدا في طلبه للعلم وقراءةالمطولات، وكان يقرأ كثيرا منها على شيخه أبو حبيب من بعد صلاة المغرب من كل يومإلى آذان العشاء، وكذلك في الضحى من بعد طلوع الشمس إلى قرابة الساعةونصف.

وقد قرأ على شيخه في هذين الوقتين المباركين كتباً كثيرة، كالصحيحينومختصر سنن أبي داود، وتفسير الطبري، وتفسير ابن كثير، وجامع العلوم والحكم، وسبلالسلام، والآداب الشرعية لابن مفلح، وشرح الزاد، فضلا عن المتونالكثيرة.

وكان الشيخ متنوع المشارب؛ فقد أخذ عن علماء بلده، وعند انتقالهللرياض درس على كثير من المشايخ وعلى رأسهم الشيخ: محمد بن إبراهيم فقد قرأ عليه (الروض المربع)، وبلوغ المرام، وفتح المجيد، وكتاب الإيمان والواسطية والحموية لشيخالإسلام ابن تيمية.

ودرس على الشيخ إسماعيل الأنصاري، وحماد الأنصاريالإفريقيين، ومحمد البيحاني من حضرموت، وابن عمار من الجزائر، والشيخ عبد الرزاقعفيفي من مصر، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي من موريتانيا، وغيرهم كثير.

فهمكوكبة من كبار العلماء ذوي العلم الواسع في الفتون المختلفة في التفسير والفرائضوالفقه والحديث والعقيدة والأدب.

وكان مثابراً على طلب العلم متحملاً للمشاقفي جمعه ، يذهب في الصباح الباكر مشياً على الأقدام للقراءة على شيخه (صالح بنمطلق) في قرية مجاورة لبلده تبعد عنها نحوا من 5 كيلو أو 7 كيلو، ويرجع في المساءماشياً، وقد يبيت عنده أحيانا، ويعود في اليوم الثاني.

ويتحمل المشاق فيسبيل مرافقة شيخه حتى لو اضطر للركوب في صندوق السيارة.

وقد كان شيخه صالحبن مطلق أديباً مفوهاً يحفظ من النظم ما يزيد على خمسين ألف بيت، فضلا عن الأشعاروالمقامات والقصص الكثيرة،وهو كما ذكر لي الشيخ: "ضريرالبصر، وكان يدلنا على كثير من القصائد ويحثنا على حفظها".

وقد صحبه الشيخابن جبرين في سفره إلى مكة للحج مرتين، الأولى منهما كانت أول حجة للشيخ سنة (1369) وكانت في سيارة مكثوا في الطريق 5 أيام ذهاباً، و3 أيام إياباً.

قال الشيخ ابن جبرين: " وكان الطريق صحراوياً ولا نستطيع أننسري في الليل، ونتوقف في وسط النهار أيضاً في القيلولة، وفي هذه المدة نقرأ عليهفي وقت القيلولة، وكذلك في وقت الصباح قبل الركوب وبالأخص في مناسكالحج".

وقد كان الشيخ ممن اختارهم الشيخأبو حبيب لصحبته في رحلته للمناطقالشمالية بتكليف من الشيخ ابن إبراهيم نظرا لحاجة تلك المناطق للتعليم والتوجيه،وقد ذكر لي الشيخ جانبا عن رحلته هذهفقال: "هذه رحلةطويلة، وهي التي أرسلنا فيها الشيخ محمد بن إبراهيم، وجعل رئيسنا الشيخ عبد العزيزأبو حبيب الشثري رحمه الله، ندعو ونعلم في هذه المدة التي استغرقت ثلاثة أشهر ونصف،ابتدأنا من أرماح، ثم مشينا على الحدود الشمالية من قرية، والحفر، والقيصومة،والحدود حدود العراق، وانتهينا إلى حدود الأردن إلى الطريف، وإلى حقل، وإلى حدودالساحل، ثم رجعنا إلى المدينة.. خيبر.. العلا.. تبوك ، وهكذا...".

وكانالشيخ يمضي وقته في الرياض في طلب العلم، فمن بعد الفجر حتى انتشار الشمس يقرأ علىالشيخ محمد بن إبراهيم، وبعد درس الفجر للشيخ محمد بن إبراهيم، يذهب إلى المنزللتناول الفطور، ثم يرجع بعد ساعة ونصف لتلقي بعض الدروس في المسجد.

ومماذكره لي الشيخ،قال: "عندما قدمنا على الرياض في سنة (1374) رأى الشيخ الشثري رحمه الله أن يستزير جملة من المشائخ في ليلة الجمعة مساءالخميس من كل أسبوع، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي،والشيخ عبد العزيز الأشقر، فلسطيني، وجملة من المشائخ أحياناً ابنمهيزع.

يجتمعون في بيت الشيخ بعد العشاء ولمدة ساعة ونصف ونحوها، وكلفني أنأقرأ عليهم، أقرأ في صحيح البخاري، ويتولى الشيخ عبد الرزاق شرح الحديث الذي نقرؤه،وكذلك أيضاً يتولى الشيخ عبد العزيز بن باز التعليق عليه، ولا يزالون كذلك يبحثونفي المسائل المتجددة التي تحتاج إلى مراجعة وما أشبهها من المسائل التي تقع،فيستفيد الحاضرون".

فوأسفاه على فقدنا لعلم تلك المجالس مع هذه الكوكبةالمباركة.

وكذلك كان الشيخ ابن جبرين يحضر مجالس الشيخ ابن باز، وقد استفادمنه كثيرا.

قال الشيخ: "من سنة خمسٍ وسبعين إلىسنة ثمانين كنا نأتي إليه في بيته، ونحضر الدروس، وبالأخص عندما ابتدأ في تصحيح فتحالباري نحضر معهم أحياناً الذين يصححون، كانوا قد أحضروا أربع نسخ مطبوعة، طبعاتمتفرقة، ونسخة خطية، فكانوا يقرؤون عليه، يقرأ عليه أحدهم والبقيةيصححون.

هذا يقول: عندي فارق كلمة، عندي نقص كلمة، ويثبت ما رأى أنه أصحالكلمات وينبه أيضاً على بعض الغلطات كما هو في المجلدين الأوليين من فتحالباري...".

وقد وثق به الشيخ ابن باز فأوكل إليه إمامة الناس في الجامعالكبير، وكان يحيل إليه مسائل الفرائض التي لم يحلها أحد غيره، وكان قد برع في هذاالعلم وتلقاه في أربعة سنين عن شيخه عبد العزيز بن ناصر بن رشيد.

ومع ما كانيعانيه الشيخ من ضيق ذات اليد إلا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة طلب العلم، فقد أخبرنيعن الوضع المادي لوالده، وأنه لم يكن له من الدخل إلا ما يرزقه الله به من الشيءاليسير من بعض الأعمال التجارية التي كان يقوم بها.

ولما انتقل الشيخ إلىالرياض عام (1373) ترك زوجته في البلد، ولم يستطع استقدامها للرياض إلا بعد أربعسنوات في سنة (1377)، وذلك لصعوبة حاله وظروفه.. وبقي ساكنا في بيت من حجر وطينقرابة سبعة عشر سنة.

وكان الشيخ متواضعاً، حريصاً على الحقوق العامةللمسلمين، من عيادة المريض، واتباع الجنازة، ولما سمع أن جدي (لأمي) توفي حضرالصلاة عليه دون أن أخبره بذلك، وحقق رغبتي في إمامة صلاة الجنازة لما طلبت منهذلك.

وكان يصبر على طلابه ويترفق بهم، وقد مر عليه وقت لا يحضر بعض دروسهإلا طالب واحد في المواريث، وقد حضر الشيخ مرة ولم يجد إلا هذا الطالب، فقال له: "أنا وأنت وبراد الشاي ثالثنا".

وقد سألت الشيخ عن صوته، هل كان بسبب حادثةمعينة أو ظرف صحي أو أنه هكذا من القديم؟

فقال الشيخ: "هكذا كان، ما أذكرأنه تغير، وكذلك الذين يعرفوني قديماً ما ذكروا أنه حصل شيئ يغيره، وهم يعرفون صوتيمن صغري أنه هكذا دون أن يحصل فيه شيء من التغير".

وذكر لي مرة في مجلس خاصأنه كان جميل الصوت، فأصيب بالعين، فأصبح يعاني في كلامه، ومرض مرضاً طويلاً عانىفيه من بلع الطعام حتى شفاه الله منه في مرحلة متأخرة من حياته.

ومما لا بدأن يتنبه له: أن فتاوى الشيخ لا تدل على علمه الغزير، ومن أراد الوقوف على علمالشيخ حقيقة، فعليه بشروحه على الكتب ومطبوعاته ودروسه المسجلة، ففيها يظهر عمقهالعلمي وفقهه الواسع.

وقد بارك الله للشيخ في وقته فكان يقوم بالأعمالالمتنوعة الكثيرة في يوم واحد بل في مجلس واحد.

فتراه في غرفة الإفتاء يرفعسماعة الهاتف والأخرى موضوعة على الطاولة، والسائلون جلوس حوله، وبيده أوراق يكتبعليها إجابات، وبجانبه طالب يقرأ عليه.. فيوزع وقته بينها في تنظيمعجيب.

والشيخ سهل الاقتحام ليس عند حجاب ولا بواب، وفي مجلس بيته: يعقدزواجاً، ويقسم ميراثاً، ويكتب شفاعةً، ويجيب هاتفاً، ويستقبل زائراً، ويشرح لطالبمسألة.

ولقد كانت جنازته أكبر دليل على مكانته في قلوب الناس... فقد امتلأالجامع الكبير كاملاً بساحاته، وأغلقت بواباته قبل الظهر بساعة، ثم امتلأت الساحاتالخارجية وامتدت الصفوف إلى مواقف الأسواق المجاورة.. وأوقف المشيعون سياراتهم علىجوانب الطرق الرئيسة ومشت الجموع كيلو مترات على رجليها، بالرغم من حر الظهيرة،وفيهم من المواطنين والمقيمين، ومن دول خليجية ومن العرب والأعاجم وأكثرهم منالشباب.

كان حب الشيخ يطغى على حر الظهيرة، وكان دور طلبة العلم بارزاً فيتنظيم الناس لإفساح الطريق للجنازة وتنبيه المصلين بعدم التقدم على الإمام خارجالمسجد في صلاة الظهر.

وأعاد بعضهم صلاة الظهر بعد أداء صلاة الجنازة، وقامبعض المحسنين بتوزيع المياه على المشيعين الذين امتلأت بها جوانبالمقبرة.

ومن رأى وقائع جنازته وتابع صفحات المواقع الالكترونية ولاحظ أعدادالمترحمين والمودعين للشيخ أدرك كم ترك الشيخ من الذكر الحسن في الناس... وكما قالبعض السلف لأهل البدع: "بيننا وبينكم يوم الجنائز".

رحم الله الشيخ رحمةواسعة، وأسكنه فسيح جناته، ورفع درجته في المهديين، وأخلف الأمة خيراً، وإنا للهوإنا إليه راجعون.


محمد بن صالح المنجد

 

http://www.islamway.com/?iw_s=Article&iw_a=view&article_id=5334

 

 

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال