فهد بن علي العبودي : وليس لفقد المصلحين طبيبُ

حاولتُ أن أسفح الدموع، لتطفئ أوار الحزن الذي شبّ في خافقي، ولكن الغصة التي شرقتُ بها حين علمت بوفاة العلامة الشيخ عبد الله بن جبرين - رحمه الله وأعلى نزله - قد حالت دون عروج لفحات الأسى التي تستمطر المقلتين عبرات ودموعاً، فما أقسى الحزن إذا ظل مكبوتاً في الحنايا، ولم يجد منفذاً ينفذ منه.
وقفتُ مذهولاً حينما قرأت الرسالة التي حملت لي خبر وفاة الشيخ - غفر الله له - وشخص بصري برهة يستعرض اللقاءات والدروس والمحاضرات التي جمعتنا بالشيخ معلماً وطلاباً.
الموت حق، والدنيا دار فناء، ولكن وقع المصيبة بموت أحد الأعلام الأفذاذ جرحٌ غائرٌ في النفس، لا يطببه نطاسي، ولا يأسوه آس، وإنما يلتئم مع مرور الأيام بدواء الصبر والسلوان.
             لكل بلاء في الحياة طبيبُهُ           وليس لفقد المصلحين طبيبُ

رحل شيخنا وحبيبنا العلامة عبد الله بن جبرين رحمه الله وأسكنه الفردوس عنا في زمن مدلهمّ بالفتن والشهوات والشبهات، نحن محتاجون فيه إليه وإلى أمثاله من المصابيح التي تنير الطريق لسالكيها، وتفضح فيها لصوص الفكر، وقطاع سبيل الخير.
 

      بمن يهتدي الساري الذي سار في الدجى          إذا كانت الأقمارُ فيه تغيبُ؟

الشيخ ابن جبرين - رحمه الله - سراج من سرج العلم التي طالما اتقدت نوراً وتبصرة في دهاليز الفتن المحلولكة التي مرت بها الأمة، فكانت آراؤه وفتاواه مشاعل تهدي من يأخذ بها إلى ضفاف السلامة، ومرافئ الأمان.
يحق لي أن أصف العلامة ابن جبرين - رحمه الله - بالرحالة، لأنه جاب المدن البعيدة، وطاف القرى النائية، في سبيل تبليغ العلم - بلغه الله أعالي الجنان - فقد عرف عنه - رحمه الله - أنه لا يتردد في إجابة من يدعوه إلى إقامة الدروس والمحاضرات في تلك المدن وهاتيك القرى.

      بكتك ديار المسلمين وأهلها         فقـد كنت فيهـا بالشـريعـة رائـدا
     وبكتك حلقات العلوم تركتها          وقـد كنت فيهـا جاهـداً ومجاهـدا
     ولكـن يُسـلـى كـل بـاك بأنه          كما قد وردت الموت يأتيه واردا

العالم الجليل عبد الله بن جبرين - رحمه الله - عاش منطوياً في أكناف الزهد والورع، نائياً بنفسه عن بهارج الدنيا وزخارفها، تبحث عنه وينأى عنها، ولو أرادها لأمسك بزمامها، إذ هي قريبة منه، دانية إليه.
في مشهد الصلاة على الشيخ - رحمه الله -، وتشييع جنازته إلى المقبرة، كانت السبل مكتظة بجموع الناس، الذين تقاطروا من كل صوب - رغم حرارة الهجير - ليؤدوا حق الشيخ عليهم، ويقضوا دَيْنَ محبته والوفاء له، قلت في نفسي: سبحان الله!
إن للمحبة الصادقة سراً دفيناً، يدفع المحبين إلى وصال أحبابهم ولو بعد مماتهم، غير عابئين بما يعترض خطاهم من مشاق وعثرات.
 

       اليـوم جئنـا خـلف نعشك خشعاً          أذكـرتنـا لمـا رحـلت مـدانـا
       لله درك ما تـزال مذكـرا          للنـاس لا تنسى ولا تتوانـى
       هرع الجميـع يشيعونـك جهـرة          والحزن في قسماتهم قد بانا
       قد شيعوك وبعضهم يخفي البكا          والبعض لم يسطع له كتمانا

ما زلت أتذكر استبشارنا بقدوم الشيخ - غفر الله له - علينا في الدلم قبل عام، وحثنا لبعضنا على الحضور عنده، والنهل من سلسبيل علمه، واليوم نحن نعزي بعضنا، ونواسي الأمة في وفاته - رحمه الله -.
 

      هذي هي الدنيا وهذي حالها         لابد من صفـو بهـا ونـقيـض
      عقبى صفاء العيش مر مثلما         يلقى زلال الماء ريق مريض

لقد رحل الشيخ ابن جبرين، ورحل قبله العلماء والمصلحون، وهاهي الكتب التي كانوا يحملونها في حياتهم، لتعليم الناس وتفقيههم، قد حملتهم بعد مماتهم عرفاناً ووفاء.
 

      حملت دواوين العلم معلما        وها أنت ذا فيهن تحوى وتحملُ


سيشهد التاريخ أن عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين من العلماء الأعلام، الذين ساروا في مسالك الزمان، وسيقول من يأتي بعده: (لقد مر وهذا الأثر).
 

      سيذكرك التاريخ لو كنت ثـاوياً         فيؤنس ولهاناً ويقهر حاسدا
      سيذكرك التاريخ بالخير والهـدى        وأنعم بهذا في الأنام محامـدا
      سيذكرك التاريخ بالعلـم والتقــى        ويجعلك التاريخ بالذكر خالدا

فهد بن علي العبودي - الدلم

جريدة الجزيرة http://www.al-jazirah.com/119698/fe27.htm

 

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال