عبدالمحسن علي المطلق : كيف نودِّع الهامات؟!

الحمد لله الذي جعل لكل حياة أجل تنتهي إليه في الدنيا، والصلاة والسلام على نبيه محمد في الأولى والأخرى.
انتقل إلى الرفيق الأعلى ظهر يوم الاثنين 21-7-1430هـ فضيلة الشيخ الدكتور أبي عبد الرحمن/ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عضو اللجنة الدائمة للإفتاء سابقاً والمفتي (دائماً) عن عمر يناهز 78 عاماً، إذ ولد في 1352هـ بإحدى قرى القويعية (غرب الرياض 180).
أدلي هنا بحقائق يثبتها للفقيه (قلمي) - ونحن شهود الله في أرضه كما في الحديث - أولاها: إنني لا أستطيع أن أُأرخ هنا لهذا العلم، ولا حتى أحسب أسطري هذه بمقام التأبين لهذه القامة السامقة.. علماً وقدراً ومكانة.. الخ.
لكنها مشاركة أعتدها لقلمي شرفاً له ولو باليسير عن هذا العلم، بخاصة ما شهدته بأم عيني في وداعه - رحمه الله (1) - ب(موكب) جليل مهيب عدة وعتادا، حين تقاطرت تلك الجموع في عز القائلة من الظهيرة.. إلى ما هو (خير) - بإذن الله -.
أجل.. رحل علامتنا وترك له في عقبنا أثراً عظيماً.. وذاك إثر مرض عانى منه طويلاً، أسأل الله أن يكون ل(درجة في الجنة) يبلغها - كما في بُشرى الحديث - {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.
والحقيقة الثانية: أني لن أتكلم في هذه المادة عن جهده علماً وتعليماً وكتابة وتأليفاً - فهي في المتناول، بل بلغت في بثها أيدي واهني المعلومات وقليلي الاطلاع، بحكم أن لفقيدنا من الرسائل الكثيرة، كما أن ما عرض عليه للتقديم وللإجازة.. أيضاً من مواد علمية من رسائل أو مطويات أو كتب أو حتى (الشفاعات) التي لم يقصر فيها.. بلغت ذوي الإربة من متواضعي المتابعة في كل الأقطار.
حقيقة ثالثة: أن هذا ليس لقامته العالية ذكر عما بلغه من قدر - رحمه الله -، فقد بلغ (صيت) الشيخ ما سبقه عطاء.. إلى القاصي والداني.
عليك رحمات الله تترى


بنسائم غواد رائحات


وجزاه عما أثراء جزاء أوفى.. لما قدم لأمته في الأولى والأخرى.
الحقيقة الرابعة: بهذا المصاب الجلل، أقول لأمتي/
إني معزيك لا أني على ثقة


من الحياة في ولكن سنة الدنيا


أي: أني قد أكون بعيداً - أو من حولي - عن مصائب الدنيا أو حتى ثقتي بأني حين أقدم هذا العزاء لا إني على (ثقة) أني بها خالد!
لكن تقديم (العزاء) هنا سنة شرعها لنا ديننا (الكامل)..
في تقديم العزاء والمواساة ومشاطرة من القوم - لأهله - ، بخاصة في مثل مقام الشيخ، ثم.. التعزي وتبادل كلمات تلين منا قلوب.. قاسية، وبسكرة الدنيا ذاهلة، - ومكلومة على فراق هذا (الجهبذ).
ولا شك أن أول ما أقدمه - أي العزاء - لآله وبنيه الذين فقدوا مقامه مع جسده، فيما افتقدوا (مع كل الأمة) ثقله، ومقامة وقدره، فهو أحد (حُصن) الدين العظيم، كما بين ذلك الحديث: (ولكن يُقبض العلم بأخذ العلماء).
موت العالم الرباني ثلمه


فقد كان له في الآفاق وقعه


كما قال الإمام السيوطي - رحمه الله - والثلمة: الذي لا يُرتق!!
واستدرك أنه والحمد لله بيننا الكثير بارك الله لنا بهم نحسبهم أهلا لملء فراغ ما ترك مع تلامذة تركهم - رحمه الله - على المحجة العلمية حين رشفوا من ورده الصافي - بإذن الله -، ممن نحسبهم والله حسيبهم على أثر الخط، وسلك نفس المنهج ثبتنا الله وإياهم.
الحقيقة الخامسة: إن هذه المفردات هي من قلم صغير، وحسبنا أن تنال درجة ذلك: (بحق) هذا الكبير، وما هي إلا صورة تقريبية لأمة.. ودعت هامة سامقة.. لنثبتها: أن كيف تودع من قبلها الهامات.. لا أكثر.
فإني لأحسب أن رحيله - رحمه الله - وما مثّل أثره في تلك الحشود التي صلّت عليه ومن ثم تبعته إلى مثواه الأخير - في الدنيا -، ما هي إلا شيء أو بعض من التعبير تحول الجُمل التي أحسبها واهنة.. عن قدرة المحاكاة لفظيا.
ولكن هذه المادة نوع من (البوح) عن أثر معلم في أحد تلاميذه.. لا عزاء موازيا البتة لقدره..
فأعزي به نفسي أولاً، ثم لأمتي قاطبة، التي أزعم أن كل فرد منها قد فقده!
إذ كان فقيها ومعطاء عطاء لا أظن لبحره ساحل.
كما وكان (ختمه) المذيل لأي رسالة.. هو بمثابة شفاعة إن لم تكن (إجازة) له.. كافية، وذلك لأي كتاب أو فتوى أو مادة تقدّم للأمة بتقديمه.. فينال صاحبها الحظوة من الأهمية ولا أقول القبول فقط.. في عطائه و(رواجاً) يبلغ منتهاه.
فإن في نيل ذلك منه - رحمه الله - مادة علمية.. مهما كان حجمها أو وجهتها/ هي درجة كافية تبيانا لمدى ما تحمله (مادته) من الصواب.
الحقيقة السادسة: التي لن أختم بها: أني لن أسطر هنا عن جهده العلمي فقد بلغ الأصقاع وجاوز البقاع.
كما.. وليس في هذا المقام أو لصاحب القلم هذا من أهلية ما يوازي عرض أهم ما قدمه الفقيه، فكيف باستعراض كاملها؟!
الحقيقة الأخيرة: وهي أجل الحقائق الصادرة عن قلب محب له في الله رحمك الله أيها الكبير علما، رحمك الله أيها الجليل أثرا، رحمك الله أيها الجهبذ عطاء، رحمك الله أيها الإمام قدوة.. في زمن (عزّ) وجود الهامات وقلّت به القدرات.
وجزاك عما قدمت خير ما جزى محارباً على ثغر من ثغور الإسلام، فأقدمت بهمتك إلى سلك هذا الباب باب (العلم) الذي قال به الشافعي - رحمه الله - مختصراً:
(سادة الناس في الدنيا الفقهاء، وفي الآخرة الأتقياء).
ورحمك الله لما قدمت لدينك وأمتك ومجتمعك الخاص والعام.. جزاء مجاهد صابر مصابر في ديننا العظيم، ناب.. به عنها، وناضل وجاوز (قنطرة) القبول، ويكفي شهادة لك هذه الحشود التي تقاطرت من كل حدب وصوب، فلا عجب من مثلك فإنها (تصغر في عين العظيم العظائم)
أجل.. أجل.. أجل يا شيخنا، ولا عجب إن قلت في ذيل خطابي:
ريشتي حاولت وقولي، ولكن


أعجز (الخطب) ريشتي ولساني


أخيراً
بدون مبالغة: كنت لما أسمع مقولة (لا أدري أعزي بالفقيد.. من)؟..
أتصور أنها ضرب من المبالغة.. العرب عُرفوا بها
أو نوعا من تكبير للخطب.. فحسب!
حتى لقيت ذلك في (موكب) تشييع هذا الإمام..
فإن الناس في الطرقات تعزي به، وتتبادل بينها مع كلما العزاء (الدعاء) له.. فإننا لنحسبه والله حسيبه: من أكبر قامات عصرنا العلمية، ولا يتجاوز ان قلت: إن هذا الشيخ الذي يذّكر رحيله برحيل أسلافه، إن لم يكن ثالث ثلاثة.. بعدما مضى اثنان منهم - ابن باز وابن عثيمين رحمهم الله جميعاً - اللذين رأينا في رحيلهما شبيها برحيل فقيدنا (ابن جبرين)، فعلى الرغم من الضغط الجوي، وعزّ الصيف..! إلا أن الأمة لم تؤثر على حضور جنازته وتوديعها عليه شيئا، ولعلي لا أتجاوز مرة أخرى إن قلت إن كانت الكلمات تعجز عن أن تفي ما في الخافق من عبير على ما يستحق علاّمتنا. ولا غرو.. كما أنها تتدافع عل لسابق منها يحظى بشرف الحضور في خطاب تأبين يبث من خوالجي.. في يوم نودع به هذا الإمام.
ولعلي بعد هذه الشهادة أقول.. ما يبلغه.. من (ولد صالح يدعو الله): اللهم اغفر له وارحمه واسكنه فسيح جناتك، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، واجعل ما أقدم عليه خيرا مما ترك، وارحمنا و(كل) المسلمين إذا صرنا إلى ما صار إليه.. (إنا لله وإنا إليه راجعون) الحمد لله من قبل ومن بعد وصلى الله على نبيه محمد.

 

عبدالمحسن علي المطلق
 

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال