عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف : هادم اللذات أخلى مكان الشيخ الجبرين

تضيق جفون العين عن عبراتها      فتسفحها بعد التجلد والتصبر

الإنسان في هذا الوجود مهما بلغ من قوة الملكة والمكانة والصمود أمام عوادي الزمن ومتاعب الحياة
وتمنع تذراف ماء العيون إلا أنه عند رحيل غال وتوديعه توديعا أبديا فإنه لا يقوى ولا يملك دفع فيضهما وأنهما لهما، ولسان حاله يردد معنى هذا البيت:
 

فلست بمالك عبرات عين     أبت بدموعها إلا انهمالا

وهذا هو شأن وحال أنجال سماحة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين وأسرته ومحبيه، بل وتلامذته الذين نهلوا من فيض علمه وتوجيهاته الأبوية لهم، فلقد بكوه وأبكوا من حولهم بكاء مراً وهم يشاهدون جثمانه الطاهرة محمولا فوق أعناق الرجال مرقلين به نحو مرقده واضطجاعه في جدثه في مصاف الراحلين داخل أسوار مقابر (العود) بمدينة الرياض، ونظراتهم الأخيرة تتابع ذاك العلم العالي ملفوفا في حلل النازحين إلى دار علام الغيوب، حتى أنزلوه برفق في كهف من الأرض بنظرات مرطبة بوابل من مخزون الأجفان والأحداق، داعين المولى أن يحسن وفادته، ويثبته عند السؤال، وأن يسكنه عالي الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء جزاء ما اتصف به من إخلاص بالعبادة، وعلم نافع أضاء به صدور المهتدين من تلامذته، وجميع من تلقاه من المسلمين سماعا أو تلقينا، رحمه الله رحمة واسعة - ولقد توفي سماحة الشيخ عبدالله ظهر يوم الاثنين 20-7-1430هـ وأديت عليه صلاة الميت بعد ظهر يوم الثلاثاء 21-7-1430هـ بجامع الإمام تركي بن عبدالله بمدينة الرياض، يتقدمهم نائب أمير منطقة الرياض صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبدالعزيز، ولقد ضاق المسجد وساحاته والتوسعات الإضافية بآلاف المصلين رافعين أكف الضراعة بالدعاء له بأن يتغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته، ثم تبعه خلق كثير إلى مقابر العود، والحقيقة ان غيابه أحدث فجوة وثلمة واسعة في المحيط العلمي والافتاء، وكان محل اهتمام وعناية ولاة أمر هذا البلد ممثلة في صاحب القلب الرحيم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي سبق أن أمر بعلاجه خارج المملكة على حسابه الخاص، واصطحاب فريق من الأطباء معه لإيناسه، ولمساندة أطباء ألمانيا هناك، وهذا هو شأن الملك عبدالله بالعلماء وبالضعفة والمساكين داخل المملكة وخارجها، ولاسيما في الحالات النادرة جدا كفصل التوائم وبعض الأمراض المستعصية بأيدي أطباء مهرة سعوديين برئاسة وزير الصحة الدكتور عبدالله الربيعة، فأبو متعب أب عطوف على الجميع - أمد الله في عمره - ومنح عضديه الصحة والعافية التامة وجميع أعوانه المصلحين، فلما طال مكث الشيخ عبدالله بن جبرين بمصحات ألمانيا ولم يطرأ على صحته تقدم أومأ فريق الأطباء بأن يعود إلى أرض وطنه ليكون على مقربة من أسرته ومحبيه، فبادر خادم الحرمين الشريفين بنقله بطائرة خاصة مجهزة طبيا على جناح السرعة إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض عله يطرأ على صحته تحسن فأخذ الأطباء يكثفون اهتمامهم بصحته وبذل أقصى ما توصل عليه الطب والعلم الحديث في إنعاشه وإيقاظ خلايا مخه وشرايين أوردته الموصلة لقلبه، فأعيتهم الحيل وكل المحاولات لإنقاذ حياته، ولكن توقفت نبضات قلبه الأبيض معلنة أن رصيده الزمني في الحياة الدنيا قد انتهى تماما، وفرت روحه الطاهرة إلى باريها بعد رحلة طويلة حفلت بنشر العلم المقروء والمسموع مع تسنم عدد من المناصب العالية حيث كان عضوا بارزا مع هيئة كبار العلماء والافتاء - رحمه الله رحمة واسعة -.
ولقد عاش فجر حياته في ربوع بلده (الرين) بمنطقة القويعية بين أهله ورفاق عمره، وكانوا يقضون جزءًا من سحابة يومهم في مزاولة ألعابهم المحببة لهم وهواياتهم في الجري والتسابق جريا في نواحي بلدانهم وقراهم مع تسلق الآكام والأجبال بخطوات متسارعة والنزول من المنحدرات العالية التي تعتبر من أفضل مزاولة الرياضة البدنية في تلك الحقبة الزمنية، وحاضرا:
 

وكم من جبال قد علا شرفاتها     رجال فزالوا والجبال جبال

فالحياة في الأرياف والقرى رحبة الفضاء تمنح الأجسام قوة وصلابة، وصفاء للأذهان والقرائح، وهكذا عاش الشيخ - عبدالله أبو عبدالرحمن - بداية حياته وطفولته في أكناف مهوى رأسه ورؤوس آبائه، ولقد حفظ القرآن الكريم كاملا وعمره فوق العاشرة قبل نزوحه إلى مدينة الرياض، وكانت مخايل الذكاء بادية على تصرفاته الذكية، وعلى محياه الوضاء وتوقده الذهني، وكأنه يحلم بما توصل إليه من رفعة وسمعه معطرة بالثناء، وبالعلم الغزير النافع وقد كان له ذلك رحمه المولى، حيث رحل إلى الرياض ولازم العلماء وأنصت إلى توجيهاتهم وما يتفوهون به من علوم نافعة وإيماءات لطيفة تحمله على إعمال فكره، وأحاسيسه الدقيقة مما سهل عليه عبور جميع المراحل الدراسية بسهولة وتفوق بما فيها رسالة الدكتوراه فتربع على أعلى المراتب العلمية والمناصب السامية، فالاستعداد الفطري له دوره الفاعل - بإذن الله - في تكوين شخصية الإنسان وإدارة ما يوكل إليه من أعمال قيادية أو فنية، ولقد عاش سماحة الشيخ عالي القامة في المحافل الكبرى، ومحبوبا لدى ولاة الأمر وفي الأوساط الاجتماعية وبين تلامذته الذين ارتووا من حياض علومه العذبة، فالكل يغبطهم بثني ركبهم أمامه في تلقي صافي العلوم والآداب الحسنة.
 

هو البحر فازدد منه قربا     تزدد من الجهل بعدا

ولقد أجاد الآخر حيث يقول:
 

سعدت أعين رأتك وقرت      والعيون التي رأت من رآكا

وكان محبا للرحلات وتلبية الدعوات وزيارة أحبته وإن نأى بهم المكان، فهو يعمر تلك المجالس والمناسبات بنشر العلم والإنصات لأسئلة المسترشدين وإجابتهم سواء في المساجد أو في المحافل العامة والخاصة، ولقد سعدت محافظة حريملاء منذ سنوات بتشريفه مكتب الدعوة والارشاد وبزيارات خاصة لبعض الأسر والمعارف هناك، كما أسعدني بزيارة خاطفة بمنزلي وبصحبته بعض أنجاله ومرافقيه، فكانت تلك الزيارة من أجمل اللحظات وأبقاها ذكرى خالدة في طوايا نفسي فهو دمث الأخلاق لين العريكة جم التواضع، ولا يسمع في مجلسه إلا الكلم الطيب والإعراض عن مساوئ الناس والتغاضي عن هفواتهم وتبصيرهم بأمور دينهم ونشر الفضيلة بينهم فكله علم ولطف.
 

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم   بعد الممات جمال الكتب والسبر
 

تغمده الله بفيض رحمته وغفرانه وألهم ذويه وأبناءه وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان.
إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف
حريملاء / فاكس 015260538
 

 

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال