راشد بن عبد الله القحطاني : هل كان الشيخ ابن جبرين وحيد عصره ؟

نحن في أثر رحيل عالمٍ من علماء الأمة الصالحين الكرام، قضى حياته في طلب العلم وتعليمه، والاجتهاد في الدعوة إلى الله،وقضاء حوائج العباد.
وهو فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، رحمه الله رحمةً واسعة، وأسبغ عليه رحمته وعفوه ومغفرته وسائر موتى المسلمين.
وليس حديثي هنا عن سيرة الشيخ وسعة علمه، ومواقف فضله ونبله، وحصر مناقبه فلا مزيد عندي على ما ذكره عنه أقرانه وطلابه وأحبابه ومعارفه في ذلك.
وإنَّما حديثي عن أمرٍ جال في فكري وراود قلبي حين رأيتُ عِظَمَ فقد الشيخ على الأمة، وهول الألم الذي أبكي أعيناً كثيرةً من طلابه وأحبابه ومعارفه، والفراغ الذي تركه رحيل الشيخ في نفوس الناس فزادهم حزناً على حزنهم.
وهذا الأمر هو : هل كان الشيخ ابن جبرين وحيد عصره ولا عليم يناظره ؟وهل انقطع العلم والحق بعده ؟ وهل العلماءُ قِلَّةٌ قليلة وحصرٌ من الخلق كتب الله ألا يتكرر أمثالهم ؟وغير ذلك مما يمكن أن يدور في مكنون النفس، وهي تساؤلات أطرحها عليكم إخوتي القراء، وأرجو أن نطرحها على أنفسنا في لحظة سكون النفس وحراك الفكر.. وأظنُّ وأحسبُ أنَّه لا أحد منَّا سيقطعُ بأنَّ الشيخ ابن جبرين كان وحيد عصره، وعالم الأمة الأوحد ، على أنَّه قد بلغ في الفقه والعلم وسلامة العقيدة ومعرفة المسائل مبلغاً كبيراً، شهد له الخلق بذلك،
وإنَّما الجوابُ الذي أراه حاضراً في نفسي، واستوحيه من سيرة هذا العلم الكريم، وما ذكره عنه محبوه وطلابه وعامة الناس، أن شيخنا وعالمنا وأستاذنا إنَّما كان تميزه ونبوغه وفضله لما كان عليه من الأخلاق العظيمة،والتواضع الجم، وطيب المعشر. واحترامه وإكباره لطلابه ومحبيه وللخلق جميعاً.
وهذا يتضح في وصف أحد طلابه له حين ذكر أنَّ الشيخ لم تبدر منه الإساءةُ في يومٍ قط إلى أحدٍ من الناس، ولم يتجهَّم أو يصرخ أو يتلفظ بمشينٍ من القول على أحدٍ من المستفتين، أو طلاب العلم أو غيرهم، فكان لطيفاً حبيباً قريباً من نفوس الآخرين،
وكان يشجع طلابه ويُثمِّن ما وصلوا إليه من العلم والتحصيل وغير ذلك الكثير مما سمعت.
ومن هنا نعلم بأن الشيخ عبد الله بن جبرين ما كان وحيد عصره في العلم، فالعلمُ والعلماء باقون، والوحي محفوظ، والخيرُ في أمة محمدٍ باقٍ إلى قيام الساعة، لكن هيهات بين من يجمع إلى العلم الخلق الواجب له، والتواضع والنبل وكرم النفس،وحسن الالتفات إلى عباد الله، والتجافي عن مظاهر الدنيا وغرورها.. وبين من تجده بعلمٍ ومنصبٍ وجاهٍ لكنه يفقدُ جوهر العلم وأثره في تهذيب النفس.
إخوتي القراء، أنا حين أكتب عن الخلق الحسن وأحث عليه فإني لأستغفرُ الله سبحانه من نعتي لأمرٍ أحسبُ أني فيه ظالمٌ لنفسي، لكن يبقى أن نذكر أنَّ محيطنا الاجتماعي على ما فيه من خيرٍ يعاني أزمةٍ في الأخلاق عند الكثير، ولاشكَّ في أن هذا يعظم إذا كان سوء المعاملة والجفاء يصدر من أهل العلم والفكر والثقافة بشتَّى مشاربهم، إنّ علينا إخوتي أن نحاسب ونسأل أنفسنا هل نحن على الجادَّة والطريق المستقيم ؟ وهل نحن نطبق ما درسناه وتعلمناه من الأخلاق الكريمة؟ وهل كان ما نحوزه ونحرزه من العلم والفقه والثقافة والفكر وحسن السمعة عند الناس حافزاً لنا على التواضع واستصغار النفس أمام عظمة ربها ومولاها وعلى مزيدٍ من الرحمة والعطف والحب لعباد الله وتمني الخير لهم كما نتمناه لأنفسنا.
إنَّها تساؤلاتٌ أطرحها وفي النفس حزنٌ على كثيرٍ من أهل العلم والثقافة والفكر، الذين يفتقدُ الجالس معهم إلى التواضع واللين ودماثة الخلق، واحترام الآخرين، وعدم التنقُّص من ذواتهم وآرائهم، وحسن الاستماع إليهم. فالبعض من المتعلمين أو المثقفين قد يحاول إشعار من أمامه من الناس بصغر حجمه أو قبح جهله أو الترفع عليه بأي تصرفٍ من الأفعال والأقوال وغير ذلك مما يمكن أن يكون.
ومن رأى أحوال الناس اليوم رأى عجباً من تسابق الكثير من المتعلمين والمثقفين إلى الظهور في وسائل الإعلام والتنافس في ذلك والخوض في أحاديث ومسائل لا مزيد من العلم والتأصيل فيها وإبداء الآراء والأفكار على وجه القطع الذي لا تراجع فيه والحرص على المظاهر وإثبات الوجود والتقرب من أهل الجاه، والترفع عن عامة الناس وضعفائهم ومحتاجيهم.
إنَّ مثل هذه الأحوال وهذه الأعمال ما كانت من أخلاق العلماء الأجلاء ولا الفقهاء الصالحين ولا المثقفين النبلاء أصحاب القلوب الواسعة البيضاء، ومن رأى مجلس الشيخ ابن جبرين وأمثاله أدرك ذلك، إذ هو مجلسٌ مفتوحٌ للجميع بكلِّ مشاربهم ومستوياتهم،إنه مجلسٌ كان الشيخُ فيه ربما شارك في تحضير طعام الإفطار في رمضان للحاضرين عنده، فإذا حُدِّث في ذلك أجاب : الأمر سهل ،بل إنَّ الشيخ مرَّةً لاطف وشارك صبية يلعبون الكرةَ في الشارع فرَكَلَ لهم الكرة بقدمه حين ضلَّت طريقها عنهم في صورةٍ من صور السماحة والبساطة والنبل. أيها السادة القراء الحديث يطول في مثل هكذا مقام لاسيما وفي الفؤاد حزنٌ عميق على الفقيد الراحل، لكن ما ذُكر إنما هو وصيةٌ أرجو أن تصادف قلوباً حيةً، واستجابة مرجوة، وأن توقظ في أنفسنا روح المحاسبة لها وتعاهدها والأخذ بلجامها إلى ما فيه صلاحها ونجاتها وتخليصها من شرور النفس وعتوها وعُجبِها.
وما أصدق ما قاله أمير الشعراء رحمه الله حين قال :

 

وإذا أتى الإرشادُ من سبب الهوى           
          ومن الغرورِ فسمِّه التضليلا
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم           
           فأقم عليهم مأتماً وعويلا



رحم الله شيخنا ابن جبرين ونوَّر له قبره وجمعنا به .. إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير.

راشد بن عبد الله القحطاني

 

http://www.alyaum.com/issue/article.php?IN=13193&I=693340&G=1

أضف تعليق

جاري ارسال التعليق
تم ارسال التعليق
فشل فالإرسال