قابلته في مجلس أخي في ليلة منليالي رمضان ولم أقابله قبل ذلك فلم أتعرف عليه من أول نظرة... لم يكن متصدراالمجلس في جلوسه أو كلام.. هش وبش وأثنى ودعا فعرفته وهممت بتقبيل رأسه بل أصريتفصدني برفق وأبى وامتنع. عجيب ذلك الرجل جد عجيب.. جمع السمت كله والخلق كلهوالتواضع كله والبساطة كلها والعلم كله والعمل كله..ابن جبرين علم في رأسه ناروإمام وعلامة بل هو شيخ الإسلام في عصره وفقيه زمانه خطبته الدنيا وتقربت إليهوتزينت له وتجملت فصدها وركلها كما يركل الطفل الكرة ومضى في طريقه الذي ارتضاهلنفسه واطمأنت إليه سريرته، مضى كما عهدناه شامخا محلقا وقورا بشوشا يبكي أوضاعالمسلمين ويدعو لهم ليل نهار وقته ليس ملكه ، لم يجعل لنفسه إلا فضول الأوقات أماالباقي فللناس وهكذا تكون الهمم التي لا يطيقها إلا الكبار والكبار فقط. رحل ابنجبرين وارتحل ولا بقاء لحي، لكنه ارتحال من نوع آخر لرجل فريد قل أن يجود الزمانبمثله، رحل في يوم مشهود سكنت فيه ذرات الغبار التي خوفونا بها قادمة من أرضالرافدين، أجل سكنت وبطأت سيرها –بأمر ربها- لتسارع الجموع الغفيرة من كل أنحاءالمملكة في تأبين هذا العلم الهمام في يوم مشهود لن يمحي من ذاكرة الناس، يوم طأطأتله الرجال هاماتها إجلالا وتقديرا وإكراما وتبجيلا وعرفانا بالفضل واعترافابالإمامة في الدين، يوم من أيام السنة لكنه فريد بكل المقاييس، ذرفت فيه العيونالمودعة وكظت العيون وحولت من كل بيت مأتما لرحيل فذ من الأفذاذ وعلم من الأعلامورأس من الرؤوس وقامة من القامات.
رجل ما عاش لنفسه أبدا، أنفق وقته بل عمرهكله في خدمة الناس وقضاء حاجاتهم ونشر الهدي بينهم وحمل لواء السلف الصالح، لم يجزععلى شيء فاته من الدنيا أبدا، عاش مطمئن البال مرتاح الضمير لم يستهوه جر العباءاتولا مداهنة الكبار ولا مزاحمة أرباب الدنيا ولا التصدر في المجالس ولا التربع فوقمنابر الإعلام. رجل عرف ما يريد وكأنه يرمق كل يوم جنة الرحمن ويراها بأم عينه فيغذالسير لها غير آبه بلعاعات الدنيا وحظوظها الزائلة الفانية. كان يدرك أن الدنياليست بدار مقر وليست لحي سكنا فأعرض عنها فجاءته راغمة جاثمة. يالله كم لهذا الرجلمن مكانة عظيمة في قلوب الناس تعدل كل حظوظ الدنيا وقناطيرها المقنطرة من الذهبوالفضة والأنعام والحرث.
هو زاهد بكل المقاييس لاشك في ذلك وليس حديث العاطفة التي فرضهاالموقف بل هو سيد الزاهدين وسيد العلماء الربانيين وبقية السلف وملك البساطة التيلا تكلف فيها. أحبه الناس فبادلهم حبا بحب ومودة بمودة وقربا بقرب.
كم سمعنا صوته إذا اجتاحت المسلمين جائحة، كم سمعنا صوته يوم أنخفتت أصوات، لم تكن حسابات ابن جبرين لتنطبق على كثير من أهل الدنيا فكانت جراحاتهتتكلم قبل لسانه وكانت مواجعه تئن قبل يراعه، كان ينطق بالحق ويجاهر به ويتقطع ألماعلى إخوته في طول الدنيا وعرضها، لا يجامل في الحق ولا يداهن. ترك الجامعة وهوالجامعة وترك الإفتاء وهو الإفتاء. لم يقدم اعتذارا ولم يدخل على ولي الأمر ولميبرر مواقفه بل مضى في طريقه وعينه ترمق شيئا لا نراه وقلبه يحثه على السير وهمتهتفوق الهمم وعزيمته تناطح الجبال.
كانت نفسه تشرئب للنعيم المقيم، النعيم السرمدي الأبدي، النعيمالذي لا ينفد والصحبة التي لا تمل والكوثر ورؤية الله عز وجل، فتصرمت آماله من الدنياوقطع حبال ودها وسار مؤمنا موقنا واثقا عازما متطلعا متحفزا مشتاقا فكان في جيلالكبار، كان عملاقا وسط غابة من الأقزام ينظر إلى تهافت الناس على الدنيا فيعجب منهفواتهم وسقطاتهم وعثراتهم. هذا العملاق السلفي الفذ ما انتصر لنفسه قط إلا أن تنتهكمحارم الله، كان يذكر مشائخه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة فتدمع عينه ويبكي قلبهفيترحم عليهم ويذكر شمائلهم ويدعو لهم. كان ابن جبرين بسيطا يبهرك في بساطتهوسماحته فهو السماحة والفضيلة والطهارة والنبل، كان لا يمتنع من دعوة آحاد الناس،مضى سحابة عمره معلما وموجها وواعظا ومذكرا حتى ثنى الرجال عنده الركب وتزاحمتالعقول لتهل من نبعه الفياض المتدفق.
هنيئا لك والدي هذا الحب الذي لا مثيلله في دنيانا، هنيئا لك هذا القبول بين الناس، هنيئا لك هذه الجموع التي احتشدت منذالصباح الباكر لتلقي نظرة الوداع الأخير على معلم الناس الخير. ما أحبك الناس لمنصبولا لجاه أو مال بل كان حبا خالصا من القلب للقلب، حبا في الله ولله.
وهاأنذا أسطر بعضا بل نزرا يسيرا من حياة الشيخ وأختزلها في كلماتبسيطة ولو استطردت لاحتجت إلى مجلدات، حياة مباركة امتدت أكثر من سبعة عقود منالزمان ما كل فيها الشيخ ولا مل يتنقل في كل مكان وينشر ويعلم ويوجه ويصبر ويحتسب،حياة لا يطيقها من آثر الراحة، ولا يطيقها من خبت به همته، ولا يطيقها من تعلق قلبهبالدنيا، ولا يطيقها من تكبر وتجبر، كان يذهب إلى الناس ولا ينتظر قدومهم، يبلغ عنرسول الله صلى الله عليه وسلم ويوقد في القلوب مواعظا وفي العقول علما راسخا.
ابن جبرين أمة في رجل وفقده طامة من الطوام ومصيبة من المصائبفالعلماء ورثة الأنبياء وبموتهم يقبض العلم، والشيخ من الجيل الرائد الذي عاصرالدعوة في زمن الشيخ العلامة مفتي الديار السعودية محمد ابن إبراهيم رحمه الله فكانرائدا من روادها، وبرحيله فقدنا ركنا ركينا وعلما عظيما وسيرة عطرة وحكمة وقادةومربيا فاضلا ونفسا سامقة. رحل وكلنا راحل ومضى وكلنا ماض وغادر وكلنا مغادر وودعوكلنا مودع وبلّغ وقل فينا من بلغ وعلّم وقل فينا من علم ونصح وقل فينا من نصحوأعرض عنها وكلنا أقبلنا عليها وصدها واحتضناها وردها وقبلناها وحلق وهبطنا وشدالمئزر وأرخينا وذكر الله ونسينا أو تناسينا ولزم الغرز وتركنا وسار على المحجةوتباطأنا.
رحمك الله شيخنا رحمة الأبرار ومعذرة منك بعد مماتك فهذه الكلماتهي بعض ما تختزنه قلوبنا لك من ود وحب وتقدير وإجلال وإلا فقدرك لا تحتويه الكلماتولا تعبر عنه المجلدات يا بقية السلف
أضف تعليق