وهكذا يمضي هؤلاء العظماء ..
وتبقى اللوعة والألم يعصر قلوبنا أسفاً عليهم (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ )(1) وفقداً لهم (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ )(2) وتستجيش نفوسنا ولا ندري ما الخطب !
وكلما تذكرنا خيالهم توقفت كل اللحظات المحمّلة بذكرياتهم الخالدة في نفوسنا وستبقى إلى أن نلقى الله .. فتاواهم .. مواقفهم .. دروسهم .. لقاءتهم .. ابتلاءاتهم ... وأخيراً .. جنائزهم محمولة على الأكتاف وقد حملت تاريخاً يحكي العلم والصبر والصدق ولا ينتظرون إلا الجزاء من رب رحيم كريم .. هو خير راحم سبحانه فلا نقول إلا ما يرضي ربنا ..
سلوانا في منهاج ربنا بأن نصبر وندعو الله أن يتغمد موتانا برحمته ويسكنهم فسيح جناته ..
وماذا بعد :
المؤمن المعتبر يتجاوز باتعاظه حدّ الموت والقبر والفقد ، ليصل بِعَبرته وعِبرته إلى ما وراء ذلك ..
ماذا ترك الفقيد من الرصيد المادي والرصيد المعنوي ؟
وما استثماراته التي ستدرُّ له أجراً عظيماً بعد وفاته ؟
يتأمّل البصير والمعتبر الصادق إلى ما يجريه الله على عباده الصالحين من الموت استبشاراً بلقاء الله لنيل الجائزة وتحصيل النوال..
من مات فقد مات (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ )(3) وأفضى إلى ما قدَّم (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )(4) .. والعبرة لمن بقي .. كيف سيؤول حاله ؟
اليوم بوفاة الشيخ ابن جبرين -رحمه الله- بقيّة السَّلَف ؛ يعجز القلم أن يُراود العاطفة أو العقل ليكتب ما يريد فلا سلطان له عليهما !
- فقْد العلماء رزيَّة ومصيبة ؛ لأنه إيذانٌ -عياذا بالله- بأن يتخذ النّاسُ رؤوساً جُهَّالاً فيضلّونهم بعلم ونصف علم وبلا علم ! . " عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنَّ الله لا يقبض العلمَ انتزاعاً ينتزعُهُ من العِبَاد ، ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً ، اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالاً ، فَسُئِلوا ، فأفتَوا بغير علمٍ ، فضلُّوا وأضلُّوا "(5)
- بفقدهم يفرح حزب الشيطان ودعاة الفساد والتخريب لتمرير خزاياهم والانتقام منهم بالتشويه والاتّهام.. والمنافقون لن تعجزهم حيلة شيطانية في النَّيل من أمَنَة السَّماء وحُمَاة الأمَّة .. ولا زالت الأمَّة بخير -بحمد الله- بعلمائها وصلحائها (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله عز وجل)(6)..
- بفقدهم نخسر الزمان الذي سيقضيه مَنْ بَعدَهم ليسدّوا المكان الذي سدّوا ..
- بفقدهم نفتقد كثير من الحكمة والرأي السديد وكثير من التربية وكثير من التاريخ الذي صيغ في ذواتهم وقالبهم وأنتجهم - ولا نزكيهم على الله - ..
- إن كنَّا في الحقيقة لم نفقد علمهم المبثوث في الأرجاء - بحمد الله - غير أنَّا سنفقد آراءهم في النوازل .. وسنفقد إحساسهم بحاجة الأمَّة .. وسنفقد الجلوس إليهم وسماع حديثهم ..
ولنا في وفاة خير الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجم الفاجعة التي حلّت بالصحابة رضي الله عنهم أثر وسبق ، فنبيُّنا عليه الصلاة والسلام عالم العلماء وسيِّد ولد آدم حين اختار الرفيق الأعلى تباينت المواقف من كبار الصَّحابة ، ومِن دافع الحُبّ تباينوا .. فعُمر رضي الله عنه لم يُصدّق بعدُ بالخبر .. حتى قضى أبو بكرٍ رضي الله عنه بقول الله (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)(7)
بقدر فقْد الحبيب صلى الله عليه وسلم كان فـقدُ الأمـان .. ولكن ثبّت الله الذين آمنوا بعدها ..
أمّا العِبرة أن ينظر طلاّب العلم والدُّعاة وكل مسلمٍ مُحبٍّ غيور إلى الدَّور الذي ينتظره ، والفراغ الذي يجب أن يُسد في طلب العلم ، ونشره ، والصَّبر عليه ، والدَّعوة إلى الله ، والتّزكية ، والعبادة ، والتضحية من بعد هؤلاء رحمهم الله ..
إنِّ العلماء الربانيين صنعوا الأثر بأبجديَّاتٍ طالما غفلنا عنها "في عصر تطوير الذَّات زعموا ، والتفكير الإبداعي ظنّوا ، وتنظيم الوقت حسبوا ،والإنتاجية وهموا " بل صنعوا التاريخ كله بإخلاصهم !
وصنعوا الرِّجال بتتلمذهم على أشباههم ممن تتلمذ على القرآن والسنة وفقه العلماء ..
غيّروا النفوس وجيّشوا الأرواح لهذا الدين -ليس بفنّ القيادة!- باليقين الذي ملأ قلوبهم وصِدْقهم الذي حرّك جوارحهم ، وتصْدِيقهم أقوالهم بفعالهم .. هذه هي صفات المؤثِّرين الربانيين .
أجادوا لغة الأثر والسُّنَّة وخلّفوا وراءهم لغة التقليد والبدعة ..
والنداء والعبرة لنا ..
فيا طلبة العلم والمربين والدُّعاة والصّلحاء وعموم المسلمين :
إنَّ من قضى فقد قضى .. والعِبرة لمن بقي !
فهل سنسير على الطريق الذي ساروا ونقول : إلى اللقاء بإذن الله ؟
اللهم اغفر لعلمائنا الأموات وارحمنا من بعدهم ..
اللهم أعظم لنا الأجر في وفاة علمائنا وألهمنا الصبر ..
اللهم لك ما أخذت بحكمتك ولك ما أعطيت ..
فألهمنا ومن أحب الشيخ ابن جبرين الصبر والسلوان !
إلى اللقاء ياشيخنا في جنَّات النعيم بإذن الله!
الكاتب/ أبوعبدالله الرحابي