كان موكب .. بل مواكب جنازة العلامة الشيخ عبد الله بن جبرين أسفارا من المعاني الجليلة، فالعظمة لا تصنع من الورق، ولكنها تمنح من يسقيها كأس روحه، ويبنيها بلبنات حياته، حتى إذا لفظ آخر نفس، انتشت تلك السحائب الفياضة، وانسكبت في أرواح الملايين.
ما هذه القوة التي اندفعت في قلوب مئات الآلاف من البشر، حتى أنهضتهم على أقدامهم، وجذبتهم إلى حيث الشيخ المسجى، الذي لا يعرفهم، ولن يعرفهم، حتى إذا استووا صفوفا، خشعت القلوب بين يدي علام الغيوب، وكاشف السرائر، وانهلت الدموع حزنا وحبا!
من المفقود؟ هل هو عبد الله ابن جبرين؟
لا .. بل هو الشيخ الدكتور، والعلامة المفتي، والعالم الرباني الذي كان يحضُّ على طعام المسكين، ويطعمه، والذي كان يعلِّم القرآن ويحفظه، وينشر العلم ويعمل به، والذي انتهت إليه سدة التوقير لأهل العلم الذين صانوه فصانهم، يقول كلمة الحق التي تطأطأ لها أعناق الرجال، ويسعى لبث الخير دون مقابل.
هو الداعية الذي تضاعف إنتاجه وعمله حين بلغ سن التقاعد، الذي يقعد بعده ملايين الناس، فمن يطيق أكثر من أربعين درسا في الأسبوع الواحد؟ ومن يذرع الجزيرة طولا وعرضا وهو في سن الثمانين؟
هو المربي الذي تتلمذ على يديه آلاف الشباب والفتيات من خلال المساجد والشاشات والأشرطة والكتب والفتاوى.
إن الإنسان يعظم قدره كلما اتسع نفعه.
ولكن سرا ما أطل بطيفه علي وأنا أتأمل حياة الشيخ..
لم يكن ابن جبرين صاحب جماهيرية واسعة في محاضراته ودروسه قياسا إلى مثلائه من الدعاة والعلماء، بل لم يكن يتردد أن يلقي الدرس كاملا ولو مع شخص واحد إذا حضر، فمن أين نبعت هذه الجماهير الغفيرة في أرض الجامع الكبير وما حوله، لماذا سافر المئات من ديارهم ليتبعوا جنازته؟ لماذا تدفقت مئات الصدور عبر الأثير بمآثر الشيخ وسرائره التي كان يجتهد في إخفائها ؟ لماذا تكشفت الحقائق لذوي النفوس الضعيفة أمام نفسه الكبيرة!! لماذا خافت ؟ لماذا انكفأت على نفسها تلوم ولا تعذر، وتعد وتتوعد؟
ما الذي صنعه ابن جبرين حتى جعل الله تعالى رحيله سببا تحيا به قلوب، وتستيقظ به قلوب، وتفرح به قلوب، وتتقطع به قلوب غيظا وحنقا وحسرة !!
هكذا العظماء دائما ..
إن من عادة الموت أن يجعلنا نلتفت إلى السيرة الذاتية لأي شخص أمير أو فقير، عالم أو جاهل، فنشطب منها كل ما يتعلق بالدنيا الدنية، ونشيد ـ فقط ـ بما يتصل بالآخرة.. كان يرعى الأيتام، كان يدعم برامج المعاقين، بنى لله مسجدا، كان صاحب خلق رفيع، كان متواضعا، كان يدعو إلى الله بلا كلل، ويعلم الخير بلا ملل، ويعطي بلا من، ويبذل المعروف بذل الكرماء، وينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، ألف كذا وكذا كتاب ، ونفع البشرية بكذا وكذا اختراع ومشروع .
فأين ـ إذن ـ رئيس كذا، وعضو كذا، ومؤسس شركة كذا؟ أين أرقام الأرصدة، والعلاقات المادية التي كان يقيمها ويحافظ عليها من أجل صفقة، وإبرام عقد ؟؟
هذا في الدنيا.. فكيف في الآخرة؟ {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ} [سورة المؤمنون 23/101]. {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الزخرف 43/67].
إذن لكل منا سجلان للسيرة الذاتية؛ سجل به ما لا يصلح للآخرة ولا وزن له فيها، وهو ما كان خالصا للدنيا، وسجل به ما قصد به الآخرة، مهما كان للدنيا منه من نفع، وعادة يكون هذا السجل ناقص المعلومات، غير موثق في صفحاتنا، ولكنه مما يرجى أن يوثق في صحائفنا يوم نلقى الله تعالى.
رحمك الله يا ابن جبرين، وأعلى في عليين درجاتك، فلقد أحسست بقلبي ينبض ـ بعد موتك ـ نبضات جديدة، لم أعهدها في حياتي قبل ذلك، فلله أنت.. كيف استطعت أن ترسل أريجك وأنت ساكن في قبرك، فتنعش به القلوب التي صدئت!!
هذا ما أحسبه فيك والله حسيبك ولا أزكي على الله أحدا.
بقلم/د.خالد بن سعود الحليبي
http://www.alyaum.com/issue/page.php?IN=13182&P=4