من أكبر نعم الله على هذه الأمة، أن حفظ لها دينها برجالها المخلصين وهم العلماء العاملون، الذين كانوا أعلاماً يهتدى بهم، وأئمة يقتدى بهم وأقطابا تدور عليهم معارف الأمة، وأنواراً تتجلى بهم غياهب الظلمة، فهم السياج المتين يحول بين الدين وأعدائه، والنور المبين الذي تستنير به الأمة عند اشتباه الحق وخفائه، فهم ورثة الأنبياء في أممهم وأمناؤهم على دينهم، فإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا دينارا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وهم شهداء الله في أرضه، يشهدون أن رسله صادقون مصدقون، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة. والعلماء هم أهل الخشية (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، وإن فقد العلماء في هذا الزمان مصيبة وأي مصيبة!، لأن فقد العالم ليس فقداً لشخصه! لكنه فقد لجزء من تراث النبوة الذي لا يُعوض عنه مال ولا عقار، ولا متاع ولا دينار. وإن من أعظم ما رُزئت به الأمة في يوم الاثنين الموافق 20-7-1430هـ هو فقد عالمها وعلامتها، العالم الفقيه، والإمام المحدث المحقق، صاحب المؤلفات المؤصلة علماً وضبطاً وتحقيقا، وحجة ودليلا، ذو الكرم الفياض والتواضع الجم، الذي لا يحب الظهور ولا الشهرة، الباحث عن الحق حتى ولو خالف الخلق، بغيته السنة وهدي سلف الأمة. الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين، بعد سيرة ونشأة عطرة الذي ولد سنة 1352هـ في إحدى قرى القويعية ونشأ في بلدة الرين وابتدأ بالتعلم في عام 1359هـ الذي أتقن القرآن وعمره اثنا عشر عاماً وتعلم الكتابة وقواعد الإملاء، ثم ابتدأ في الحفظ وأكمله في عام 1367هـ، وقد قرأ قبل ذلك في مبادئ العلوم. ففي النحو على أبيه قرأ أول الآجرومية وكذا متن الرحبية في الفرائض وفي الحديث الأربعين النووية حفظاً وعمدة الأحكام بحفظ بعضها.
وبعد أن أكمل حفظ القرآن ابتدأ في القراءة على شيخه الثاني بعد أبيه وهو الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري المعروف بأبي حبيب وكان جل القراءة عليه في كتب الحديث وقرأ أيضاً في الفقه والتفسير والأدب والتاريخ والتراجم واستمر إلى أول عام أربع وسبعين، حيث انتقل مع شيخه أبي حبيب إلى الرياض وانتظم طالباً في معهد إمام الدعوة العلمي فدرس فيه القسم الثانوي في أربع سنوات وحصل على الشهادة الثانوية عام 1377هـ وكان ترتيبه الثاني بين الطلاب الناجحين البالغ عددهم أربعة عشر طالبا.
ثم انتظم في القسم العالي في المعهد المذكور ومدته أربع سنوات ومنح الشهادة الجامعية عام 1381هـ وكان ترتيبه الأول بين الطلاب الناجحين البالغ عددهم أحد عشر طالباً وعدلت هذه الشهادة بكلية الشريعة. وفي عام 1388هـ انتظم في معهد القضاء العالي ودرس فيه ثلاث سنوات ومنح شهادة الماجستير عام 1390هـ بتقدير جيد جداً وفي عام 1399هـ سجل في كلية الشريعة لنيل درجة الدكتوراه واختار (تحقيق شرح الزركشي على مختصر الخرقي) وهو أشهر شروحه التي تبلغ الثلاثمائة بعد المغني لابن قدامة وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1407هـ بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف.
ومن أكبر المشايخ الذين تأثر بهم كما ذكرت سابقا شيخه الكبير عبد العزيز بن محمد أبو حبيب الشثري الذي قرأ عليه أكثر الأمهات في الحديث وفي التفسير والتوحيد والعقيدة والفقه والأدب والنحو والفرائض وحفظ عليه الكثير من المتون وتلقى عنه شرحها والتعليق على الشروح، وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ عبد الرزاق عفيفي وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وغيرهم كثير، نسأل الله أن يرحمهم أجمعين.
بعض الأعمال التي تولاها
تم تعيينه مدرساً في معهد إمام الدعوة في شعبان عام 1381هـ إلى عام 1395هـ.
في عام 1395هـ انتقل إلى كلية الشريعة بالرياض وتولى تدريس التوحيد للسنة الأولى.
ثم في عام 1402هـ انتقل إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد آنذاك باسم عضو إفتاء، وتولى الفتاوى الشفهية والهاتفية والكتابة على بعض الفتاوى السريعة وقسمة المسائل الفرضية وبحث فتاوى اللجنة الدائمة. وأثناء هذه المدة وقبلها كان يقرأ على أكابر العلماء ويحضر حلقاتهم ويناقشهم ويسأل ويستفيد من زملائه ومن مشائخهم في المذاكرة والمجالس العادية والبحوث العلمية والرحلات والاجتماعات المعتادة التي لا تخلو من فائدة أو بحث في دليل وتصحيح قول ونحوه.
نعم لقد أثلم في الدين ثلمة بوفاة هذا العالم الفقيه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن جبرين وقطع من الأرض طرف عظيم، بهذا المصاب الجلل، ولكن إن ما يُسلي نفوسنا ويثبت أفئدتنا ما شاهدناه وسمعناه من هذه الألسن التي لهجت بالدعاء للشيخ والجموع الغفيرة التي أدت الصلاة عليه في جامع الإمام تركي بن عبد الله، وإن مما يُسلي مصابنا في فقد شيخنا أننا وإن فقدناه جسداً وشخصاً، فانه بيننا بعلمه ومنهجه، وكتبه ومؤلفاته. فنسأل الله أن يغفر له، وأن يجزيه عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير ما يجزي عالماً عن أمته وأن يجمعنا به في جنات عدن مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وأسأله سبحانه أن يجزي خادم الحرمين الشريفين خير الجزاء على وقفته العظيمة والاهتمام بحالة الشيخ أثناء مرضه وفترة علاجه وهذا ليس بمستغرب على بلادنا وولاة أمرنا اهتمامهم بالعلم والعلماء، وأساله أيضاً أن يجبر مصاب الأمة في فقيدنا وأن يُحسن العزاء لأبنائه وطلابه وعلمائنا والمسلمين.
د. سعد بن محمد الفياض
Saad.alfayyadh@hotmail.com
http://www.al-jazirah.com/167083/fe35.htm