ودّعت الأمة الإسلامية في العشرين من شهر رجب من عام ثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة، الشيخ الحفي الوفي التقي النقي الزكي الدكتور: عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، رحمه الله رحمة الأبرار، فقد كان من العلماء الأصفياء، والأولياء الأخيار، والأتقياء الصالحين، وهو ممن اتصلت محامده، وعلت مبانيه، وجلت مكارمه، فله من كل فضيلة السهم الأعلى والقدح المعلى.
وقد سعدت بصحبته رحمه الله منذ سنين، وكانت أول معرفتي بسماحته سنة ثلاث وأربعمائة وألف، حين كان يشرح (كتاب التوحيد) في جامع الإمام تركي بن عبد الله، ولما رأيت تدريسه، وعلمه، وطريقة شرحه، وحلمه، وتواضعه، ومعاملته الحسنة، وإنكاره للذات، أحببت أن أصحبه، فبدأت بحضور دروسه، وأول علاقتي به شخصيًا أنني عرضت عليه أن أقوم بكتابة بعض محاضراته وإعدادها للنشر، فوافق مشكورًا، ثم توطّدت علاقتي به، وبدأت أزوره في بيته وأجلس معه بعض الأوقات، ثم بدأت أسير معه في بعض رحلاته التي يقوم بها خارج الرياض.
والحقيقة أنّ الكلام عن الشيخ رحمه الله وبخاصة عن برنامجه العلمي كلام طويل، لا تكفيه هذه الأوراق المعدودة، فقد لاحظت عليه كثرة دروسه ومحاضراته وكلماته، حتى في أيام الحج القليلة، فكان له جدول كامل في مصلى الحرس الوطني، يلقي فيه كلمات ومحاضرات؛ بعد الفجر، والعصر، والعشاء، وأحيانًا بعد الظهر، وبعد المغرب، وكنت بعد انتهاء كلمته أعرض عليه من الأسئلة التي يقدمها الجلوس من الحجاج الذين أتوا إلى معسكر الحرس الوطني، فكان يجلس بعد صلاة الفجر إلى ما بعد الإشراق في كلمته، ثم ألقي عليه الأسئلة، ثم بعد أن تنتهي هذه الكلمة وبعد أن تنتهي هذه الإجابات يجلس في المصلى أيضًا ليستمع لبعض أسئلة الحضور الذين لم أتمكن من عرض أسئلتهم عليه.
وبعد ذلك يذهب إلى خيمته ليرتاح قليلاً، ثم يجلس في الساعة التاسعة أو قبل ذلك للإجابة على الأسئلة التي تلقى عليه من زوار المخيم، ومن الذين لم يتهيأ لهم حضور هذه الكلمات التي تُلقى في المصلى، وقد وُضِع أيضًا عنده جهاز الهاتف ليرد على أسئلة المتصلين، وأيضًا وُضعت بعض الجولات مع بعض الدعاة في المخيم، وهؤلاء أيضًا إذا أشكل عليهم شيء راجعوا سماحته في الأسئلة، فيوضحها لهم.
ومن الأشياء التي استفدتها من الشيخ رحمه الله في الحج: حرصه على تطبيق السنن وتركه للرخص، فدائمًا كان يحج متمتعًا، يذهب إلى الحرم ويطوف ويسعى، ثم ينتهي من عمرته، ثم في اليوم الثامن يحرم بالحج، وبعد ذلك يذهب إلى طواف الإفاضة وسعي الحج، ولا يؤخر هذا الطواف إلى طواف الوداع.
أذكر مرة أننا في ليلة الثاني عشر ذهبنا إلى رمي الجمار، فخرجنا من مخيم الحرس متجهين إلى الجمار في الساعة العاشرة مساء تقريبًا، ثم ذهبنا بعد ذلك إلى الحرم وخرجنا منه بعد أدائنا لطواف الإفاضة وسعي الحج في الساعة الثانية عشرة مساء، وركبنا إحدى السيارات التي يركبها عامة الناس، وفي الطريق توقف السير من زحمة السيارات وجلسنا قرابة نصف ساعة أو ساعة إلاّ ربعاً ننتظر انفتاح هذا الطريق، فقال: مشي الأقدام وخروجنا من السيارة أفضل من جلوسنا بدون فائدة، فنزلنا من السيارة، ومشينا مع الشيخ، وكان يعرف الأماكن والمناطق، ولم أعرف الطريق إلى المخيم بسبب الزحام الشديد، فتبعت سماحة الشيخ وهو يذهب يمينًا وشمالاً حتى وصلنا إلى المخيم في الساعة الرابعة صباحًا، وبقي على أذان الفجر ساعة وقليل، وكان عنده كلمة بعد صلاة الفجر، فعرضت عليه أن نؤخر الكلمة إلى صلاة الظهر، ونجعل الشيخ سعد بن ناصر الشثري يقدم درسه إلى الفجر، فقال: لا يحتاج الأمر إلى تقديم، وإنما يعيننا الله. وهذه كلمة كان يرددها دائمًا، وهي تدل على صدق توكله - رحمه الله -.
فاقترحت عليه أن لا يلقي كلمة، وأن يكتفي بالإجابة على الأسئلة، فرفض، وألقى الكلمة في قريب من الساعة، ثم قرأت عليه الأسئلة وكنت مجهدًا جدًا، وبعد خروجنا من المصلى ذهبنا إلى المخيم وخلدت للراحة، وارتاح قليلاً، ثم قام يكمل برنامجه.
ولما صحبت الشيخ في بعض رحلاته خارج الرياض عرضت عليه أن نقرأ بعض المنظومات ويقوم بشرحها، فبدأ بلامية شيخ الإسلام، فشرح منها أربعة أبيات في الطريق إلى القصيم، وفي طريق العودة شرح أربعة أخرى، ثم ذهبنا إلى جدة وقرأت عليه أربعة أبيات وشرحها، ثم رجعنا من جدة إلى الرياض وقرأت عليه أربعة أبيات وشرحها، واكتمل شرح اللامية، ثم طبع، ضمن سلسة اسمها: سلسلة شروح الطريق، ثم توالت شروحات الطريق، فشرح عقيدة الكلوذاني، ثم تائية شيخ الإسلام ابن تيمية، ونواقض الإسلام، وأصول العقائد الدينية.
وكان الشيخ معروفاً بالتواضع عند الناس، والجميع يعلم أنه ما كان يقبل من أحد أن يقبِّل رأسه؛ لأنه يرى أنه لا يستحق هذا الأمر، ولا شك أنه يستحق تقبيل الرأس، ويستحق أكثر من ذلك من التبجيل والاحترام والتقدير، لكنه كان يرفض ذلك.
أذكر أننا ذهبنا إلى مدينة عنيزة في رحلة معه ضحى السبت، وكان جدوله كالتالي: أثناء الطريق كان الشيخ يقرأ القرآن، ثم بعد ذلك بدأ بقراءة كتاب آخر، ثم أعطاني بعض الأسئلة لأحد طلبة العلم، فبدأت أقرأها والشيخ يجيب وأنا أسجل هذه الإجابات.
وصلنا قبيل العصر، وبعد صلاة العصر استقبل أسئلة عبر الهاتف، وبعد صلاة المغرب كان هناك محاضرة، وكذلك بعد صلاة العشاء.
وبعد صلاة الفجر من يوم الأحد كنت أتوقع أنه سيرتاح قليلاً، لكنه قال لي: إنه سيستقبل اتصالاً الآن من شخص من أمريكا، يطلب منه أن يلقي عليهم محاضرة عبر الهاتف، ثم تنقل هناك في المراكز الإسلامية، وفعلاً بعد دقائق اتصل هذا الشخص، وبدأ الشيخ بالمحاضرة واستمر فيها قرابة ساعة كاملة، وبعد ذلك طُلب منه أن يُلقي محاضرة في المعهد العلمي، فتشرفنا بصحبته إلى المعهد، وألقى المحاضرة، ولما خرجنا من المعهد طُلب منه أن يُلقي محاضرة أخرى في كلية التربية للبنات فألقاها، وانتهت المحاضرة قبيل صلاة الظهر، ثم ذهبنا إلى مكتب الأوقاف، وصلى بنا الظهر، ثم ألقى كلمة بعد الصلاة.
ثم ذهبنا إلى أحد المشايخ، وهناك أيضًا كان اللقاء مع طلبة العلم، الذين عرضوا عليه بعض الأسئلة، وذهبنا لتناول الغداء، ثم سافرنا إلى الرياض، وفي الطريق كانت تُطرح عليه بعض الأسئلة والإشكالات، ووصلنا إلى الرياض قبيل أذان المغرب بقليل، فتوضأ وذهب إلى المسجد، وألقى هناك بعض الدروس بعد صلاة المغرب وبعد صلاة العشاء.
ومعلوم أنه كانت له دروس في الرياض بعد الفجر في يوم السبت والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، ولا ينصرف إلى بيته إلا في الساعة السابعة وأحيانًا في الساعة الثامنة صباحًا، أما يوم الأحد فقد فرغه الشيخ لنفسه لمراجعة حفظه وبعض القراءات، ومع ذلك يجلس هذا الوقت في المسجد حتى الإشراق.
وكان رحمه الله لا يستثقل شيئًا من الآخرين، أذكر مرة أنني اتصلت عليه أسأله بعض الأسئلة، وكنت قد فتحت جهاز التسجيل في الجوال، وأثناء جوابه لي علمت أنّ التسجيل توقف، فطلبت منه أن أعيد الاتصال عليه، فقال: لا بأس، فأعدت الاتصال عليه مرة أخرى، ثم قلت له: أرجو منك أن أعيد السؤال مرة أخرى، وتعيد الجواب؛ لأنه لم يُسجل، فوافق - رحمه الله -.
وكان لا يسأل عن موضوع المحاضرة في بعض الأحيان إلاّ قبيل دخوله للمسجد بخطوات، ومع ذلك كانت كلماته مرتبة مما يُخيل لسامعه أنه حضَّر لها أكثر من أسبوع، كما كان يسرد الأحاديث بنصها من الكتب الستة، وبخاصة الصحيحين، فتراه يسرد الحديث، وإذا راجعته في الصحيحين أو كتب السنّة وجدت أنّ الاختلاف في اللفظ نادر جدًا.
ومن المواقف التي لا أنساها لسماحته: أنني دعوته ذات يوم، وكانت الدعوة في شهر شعبان، فلما دعوته أبلغت الأقارب والزملاء الذين يكنون له الحب والتقدير والمحبة والمودة، فكانوا على وشك المجيء، وكان من عادته أنه إذا أراد الاعتذار اعتذر قبل أيام من الموعد، حتى يكون الشخص على استعداد للاعتذار للمدعوين، ولا يكون قد تكلف بشيء، وقبل أيام من الموعد اتصل بي الدكتور عبد الرحمن وأبلغني أنّ الوالد يعتذر لتضارب الموعد مع موعد آخر، وهو حضور الشيخ إلى إحدى حفلات تخريج حفظة كتاب الله جل وعلا، فتكلمت معه وذكرت له أنني كنت أتمنى أنه يحضر، فقال: لا بأس لعلنا إذا خرجنا من المكان الذي أعد لحفل تخريج الحفظة أن نأتيك، فقلت: يا شيخ، أظن هذا يشق عليك، ولذلك تتكرم عليّ بتأجيل الموعد إلى موعد آخر، فوافق، ولما قابلته وذكّرته بالموعد أعطاني موعدًا في شهر شوال، ولما كان في صباح ذلك اليوم اتصل بي الدكتور إبراهيم أبو عباة، وقال لي: إنّ إحدى قريبات الشيخ قد توفيت هذا اليوم، وأظن أنّ الموعد سيُلغى من قِبل الشيخ، ولما علمت بخبر الوفاة، وأنه سيحضر الصلاة والدفن، لاسيما وأنه سيغادر الرياض؛ لأنّ المرأة سيصلى عليها في القويعية، ويستقبل العزاء هناك، فقلت: إذن سيعتذر، لاسيما أنّ الصلاة ستكون عليها بعد صلاة العصر هناك في القويعية، وسيأتي من القويعية بعد العشاء، ويشق عليه الحضور، ولما هاتفت ابنه الشيخ سليمان قلت له: حصلت وفاة إحدى قريباتكم وأظن أنّ الوالد سيعتذر، قال: إنه لن يعتذر، وأنه قال: يكفي أننا اعتذرنا في المرة الأولى ولن نعتذر في المرة الثانية، فذهب رحمه الله إلى القويعية، وصلى هناك العصر، وحضر الدفن، وحضر العزاء هناك، واستقبل المعزين، ثم ذهب إلى أقاربه وسلم عليهم، ثم قدم من القويعية متجهًا إلى بيته الصغير وهو بيتي، فحضر اللقاء، فتأثرت كثيرًا باحترام هذا الوعد الذي لم يخلفه.
والكلام عن فضيلة الشيخ كلام طويل، والذكريات أيضًا كثيرة يجر بعضها بعضًا، وما ذكرته في هذه الكلمات لا أعده إلاّ شيئًا يسيرًا جدًا معشار معشار ما ذكر عنه وعن أخلاقه وتواضعه ورفقه، أسأل الله جل وعلا أن يغفر له، ويسكنه فسيح جناته، ويتجاوز عن سيئاته، رحمه الله رحمة واسعة، ورأف به، وأكرم منقلبه ومأواه ومثواه، ورضي عنه وأرضاه، وطيب تربته وثراه، وعفا عنه وزكاه، ولقاه من رحمته أوسعها، ومن مرضاته أفضلها، ومن مغفرته أكملها، ومن كرامته أجلها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. طارق بن محمد الخويطر
http://www.al-jazirah.com/96916/rj5.htm