بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ )) [البقرة : 155] (( إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )) رواه البخاري ومسلم وغيرهما . إنا لله وإنا إليه لراجعون مصاب جلل . . . تعجز اليد عن خطّ الكلمات، ويعجز اللسان عن النطق بالعبارات، وقد فاضت العينان بالعبَرَات . منذ أن سمعت بأن الشيخ يصارع المرض وأنا أتوجس خيفة من سماع هذا النبأ . . . فكم فقدت الأمّة من الخير اليوم بفقد درّة من درر العلم، فحُقّ للدمع أن لايُفارق الأجفان، ووجب على القلب أن يكون مَتْجَرَاً للأحزان . . . ولَكَم كنت أرجو الله أن تكتحل عيني برؤية العلماء ومجالستم، والاستنئناس بحديثهم، وبفضل الله فقد من الله تعالى عليّ بلقاء الشيخ الفاضل، وإن كان لقاءً يسيرا إلا أنه كبير جدا بالنسبة لي، وفضل من الله عظيم عليّ، وقد رأيت من الشيخ أمورا أوقعت أثرا بالغا في نفسي، سأسطّرها اليوم وفاء للشيخ رحمه الله . قد كنت في بيت الله الحرام في رمضان 1428 هـ ، وفي يوم من تلكم الأيام الخيّرة، وقبيل أذان العشاء هيّأت نفسي للخروج إلى الصلاة، خرجت من الغرفة التي كنت أقطنها، ركبت المصعد، وإذ بشيخ جليل متواجد فيه، نظرت إليه محدّقا ! ! ! أحدّث نفسي، من هذا ؟ ! ! ! أظن أني أعرفه أو رأيته من قبل . . . أليس هذا هو الشيخ ابن جبرين ؟ ! ! ! التفتّ يمنة ويسرة فوجدت رجلا بجانب الشيخ، فقلت له أليس هذا هو الشيخ ابن جبرين ؟ فقال : بلى . فكدت أن أقع مغشيّا عليّ من شدّة الفرح والسرور . . . توقّف المصعد عند أحد الطوابق ( وقد كان كبيرا بحيث يتّسع لأكثر من عشرة أشخاص ) فدخل ثلاثة نساء، كانت إحداهنّ كاشفة الوجه، فبادرها الشيخ بالإنكار والنصح قائلا : تستري ونهرها . . . [ فكان هذا الدرس الأول : إنكار المنكر عند وقوعه ومشاهدته وعدم السكوت عنه والجرأة في الحق ] نزلنا من المصعد فمشيت بالقرب من الشيخ، فتوقّف الشيخ عند محل للصرافة فصرف منه حزمة من الريالات . ثم أكمل الشيخ مسيره فاقتربت منه أكثر فقلت : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ عليّ السلام، فقلت ياشيخ : فلان الفلاني من بلد كذا، فقال أهلا ومرحبا . فقلت ياشيخ أتأذن لي ببعض الأسئلة إلى أن نصل الحرم ؟ فقال نعم . [ فكان الدرس الثاني : بذل العلم لطلابه ومحتاجيه، وإن كان في ذلك شيئ من المشقة على النفس ] فمشى الشيخ ومشيت معه سائلا ومتعلما، فكان الشيخ ينصت إلي تماما حتى أفرغ من السؤال ثم يبادر بالجواب، وقد كان الشيخ رحمه الله يمشي وكأنه في ريعان الشباب والله . لكن لماذا توقف الشيخ عند محل الصرافة ؟ ! ! ! لقد كانت المسافة بيننا وبين الحرم قرابة العشر دقائق مشيا تزيد قليلا أو تنقص، مامرّ الشيخ فيها على مجموعة من عمال التنظيفات، إلا توقف عندهم ووزع عليهم شيئا من المال، كلما مرّ بمجموعة توقف وفعل ذلك إلى أن وصلنا الحرم . [ فكان الدرس الثالث : الذي علمت فيه أن الشيخ يبذل من كل ماأوتي وبذله ليس في العلم والتعليم فقط ] ثمّ دخلنا الحرم فودّعت الشيخ مسلما على أمل اللقاء به مرة أخرى، لكن لم يكتب ذلك، وعسى أن يكون الملتقى الجنة . أسأل الله أن يرحم الشيخ وأن يغفر له اللهم اغفر له ، وارحمه ، واعف عنه ، وعافه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بماء وثلج وبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وزوجا خيرا من زوجه ، وقه فتنة القبر ، وعذاب النار اللهم آمين أخوكم الفَقِيْرُ إلَىْ رَحْمَةِ رَبِّهِ وَعَفْوِهِ .:: الأثري اَلْفُرِاْتِيّ ::.