header

ابراهيم محمد الهلالي : وثالثة الاثافي ابن جبرين

وثالثة الأثافي ابن جبرين
إبراهيم بن محمد بن عيسى الهلالي


الحمد لله الذي رفع بعض خلقه على بعض درجات ، وميز بين الخبيث والطيب بالدلائل المحكمات والسمات ، وتفرّد بالملك فإليه منتهى الطلبات والرغبات .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الأسماء الحسنى والصفات ، العالم البصير بأخفى الخفيّات ، الحكم العدل ، فلا يظلم مثقال ذرة ولا يخفى عليه مقدار ذلك في الأرض والسماوات ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالآيات البينات ، والحجج النّيّرات ، الآمر بتنزيل الناس ما يليق بهم من المنازل والمقامات . صلى الله وسلم عليه ، وعلى آله وصحبه السادة النجباء الكرماء الثقات .... أما بعد :
هكذا هي الدنيا كما عهدناها قُلَّبٌ بأهلها ، لا يبقى لها حال ، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً ، وإن أسعدت يسيراً أحزنت كثيراً ، لا يركن لها إلا مفتون ، ولا يأمنها إلا جاهلٌ لحالها ، أو لاهٍ عن مصيرها ، جعلها الله فتنة للناس ، ومقرُّ امتحان والتباس.
منذ أن أكرم الله هذه الأمة ببعثة نبيه محمدٍ وأفواج الدعاة المصلحين يتعاقبون فيها، علماء مخلصون، ومربون ربانيون من خلفاء رسول الله الراشدين، وورثته من العلماء العاملين داعين إلى الحق، حاكمين بالقسط، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، وإن العناية بسيرتهم، والتذكير بهم، وهم مصابيح الهدى التي أضاءت الطريق، بل حوّلت مجرى التاريخ في ديارها، وأورثت تحولاتٍ فكرية كبرى في عقولها، إن ذلك مما يجب أن تنصرف إليه الهمم، ويعتني به الموجهون، ويذكّر به المذكرون.

أيها المسلمون:

يقول ربنا جل وعلا: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، إن ممن رفعهم الله أهل العلم العاملين، الذين هم أركان الشريعة وأمناء الله في خلقه، منهم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، بهم تحفظ الملة وتقوم الشريعة، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الضالين، فلله درهم وعليه أجرهم، ما أحسن أثرهم، وأجمل ذكرهم، رفعهم الله بالعلم وزيّنهم بالحلم، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة ، يذكرون الغافل ويعلّمون الجاهل، جميع الخلق إلى علمهم محتاجٌ.

هم سراج العياد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق وتموت قلوب أهل الزيغ، مَثَلُهم في الأرض كمَثَل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيّروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.
لقد رزئت الأمة يوم أمس الاثنين 20 من رجب عام 1430هـ الموافق 13 من يوليو 2009م بفقد الإمام الهمام العالم المحقق الزاهد العابد بقية السلف الصالح والدنا الشيخ الدكتور عبد الله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله وأكرم مثواه ، وانزل عليه شآبيب رحمته ، وسوانح رحمته ، وعظيم فضله وإنعامه آمين.
يقول الشاعر :

لعمرك ما الرزية فقد مالٍ --- ولا شاةٌ تضيعُ ولا بعير
ولكن الرزيـة فقد فـذٍ --- يموت بموتـه خلقٌ كثير

هذا يُقال في تصوير مصاب الأمة وتعظيمه بفقد عالم واحد فكيف وشيخنا ابن جبرين ثالة أثافي الفتوى ،حيث قد فقدت الأمة قبله ركناً ركيناً _ بعد الله الجليل _ بفقد سماحة العلامة المجدد ، وحيد دهره ، وعظيم عصره ، سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أغدق الله على جدثه سوابغ فضله ورحمته وإنعامه وبعد أقلَّ من عامين رُزئت الأمة بفقد عالمها المفضال ، سيل العلوم ، ومجدد للعلم الرسوم ، المُحقق المدقق ، فقيه عصره ، ونبيه جيله الإمام العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله رحمة تُلحقه بالرفيق الأعلى في الفردوس الأسنى آمين

وقد قلت ثالثة الأثافي واصفاً لحاله ومرتبته ، لا مُتنقصاً من قدر مشائخي وعلماء هذا البلد المعطاء وإخوانهم من علماء العالم الإسلامي الكبير كلا والله فهم ملء السمع والبصر ، وما كان لمثلي ممن هو عالة على فضلهم ، وبقية موائدهم العلمية ، وقَسْماَ من سنا أنوارهم البهية ، وهم محطُّ أنظار السائلين ، وملجأ الطالبين المُستهدين ، وقد تحمّلوا بعد فقد ابن جبرين التبعة كاملة ، واحتملوا عِبئاً ثقيلاً تنوء به الشُمَّ الصلاب الراسيات ، فلهم منا الولاء الكامل في الحق ، والحب النابع من صميم الفؤاد ، والدعاء الصادق أن يُعينهم على حمل الأمانة ، ومكابدة القيادة ، وهم أهلٌ لذاك وزيادة.
ولكني سمَّيت شيخنا ابن جبرين رحمه الله باسم لا أظنهم يردونه ، ووصفته بوصفٍ لا أظنهم يُنكرونه فله في قلوبهم من الإجلال ، والاعتراف بحقه ما هو أعظم مما نُشير والله يؤتي فضله من يشاء والله واسعٌ عليم.
إني لأكتب هذه الكلمات ولم يمضِ على إيداع شيخنا قبره _ سقاه الله من رحمته _ إلا سويعات قليلة ، فالعيون لا زالت باكية ، والقلوب لا زالت مفجوعة ، والنفوس لا زالت مكلومة ، ولا زالت شاشة هاتفي النقال لم تهدأ من وميض رسائل التعزية والمواساة ، ممن عرف حالي مع شيخي ، ومكانته في قلبي ، ولطيف حنوِّه عليِّ ، وما كانت والحال كذلك لتستطيع النفس أن ترسم ما تريد ، ولا أن تعبر عما تشاء فالكلمات تتعثر بالعَبْرة ، والعين تفقد تمييزها بالدمعة ، ولهذا لن أزيد المواجع ، ولن أظهر الفواجع ففي النفوس ما يكفيها ، فلست أزعم أني الوحيد في حبِّ الشيخ ، ولا بالفريد في قربه فمعي الآلاف بل الملايين من المحبين في طول العالم الإسلامي وعرضه فالله لنا ولهم خيرُ خلَفٍ وذُخرٍ من كل فائت ، بل سأسعى أن أذكر نفسي وإخواني بما يجب علينا ، فديننا قد علمنا كيف ننظر للحياة ، وكيف نُحبُّ الصالحين ، وكيف نؤمن بقضاء الله وقدره ونعلم أنه سبحانه لم يأخذ منا شيئاً قبل حينه ، ولم يظلمنا حقاً نستحقه ولكنها سنة الله في خلقه لا رادَّ لقضائه ، ولا مُعقِّب لحكمه ، ولا إله غيره ، سبحانه وبحمده قال تعالى : { كلُّ نفسٍ ذائقة الموت ...الآية } [آل عمران:185] وقال سبحانه: {... فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون} [النحل:61]

فلم يبق لنا بعد هذا إلا أن نقول لأنفسنا فماذا نحن فاعلون بعد شيخنا ؟
لأننا نحسبه _ رحمه الله _ قد قضى ما عليه ، ورسم لنا طريق أولي الهمم العالية ، والنفوس الأبية التي رفعت الكتاب والسنة بيدٍ ، وشمَّرت بالأخرى عن ساعد العمل والجد ، إلى أن أقعدها المرض ، وأذهلها البلاء.
أرأيتم مثل ابن جبرين ، يحمل في الدعوة والسير إليها جسداً نيَّف على الثمانين عاماً ، يطوف البلاد عرضاً وطولاً ، براً لا جوَّاً ،يُدرّس في دورة علمية ، ويُلقي محاضرة عامة ، ويجيب دعوة داعية ، ويزور جمعية برٍّ أو تحفيظ ، ويكتب لمكتب دعوة أو لجنةٍ إجتماعية ، ويزور عالماً في بلد مروره ، ويسمع من أهل كل قرية عمَّا لديهم عن قريتهم من ذكريات وتاريخ ومن سكنها من أهل فضلٍ وعلم ودعوة ، جدولٌ مملوءٌ بكل نافعٍ ومفيد منذ أن ينطلق من بيته حتى يعود إليه ، إسألوا ابن الشيخ الأستاذ الفاضل والأخ الحبيب سليمان كيف كان يحار في ترتيب جدول أبيه وزياراته ، وهو يرى هذا كله أمام عينيه وقد صدرت موافقة الشيخ بكل أريحية على كل ما فيه فلم تتعود نفسه أن تُغضب حبيباً ، ولم يتعود لسانه أن يردَّ طالباً ، وما بقي على سليمان إلا التوفيق بين كل ذلك مع جزمه أن ذلك كثيرٌ ومرهقٌ للشباب وأصحاب الفتُوَّة فكيف برجلٍ يعانق عِقْده الثامن ، ولكنه في ذات الوقت يعلم أن راحة الشيخ ، وفرحة قلبه ، وسعادة نفسه أن يكون كذلك ، فلله درُّه من حاملٍ لنفس وروحٍ عشقت العلياء فلم ترض بالدون ، وأنست بالقمم فلم تنظر للقيعان ، فهل يعي القاعدون من طلبة العلم عن معانقة المعالي ، وهل يرضى حملة الشهادات الشرعية الذين تأكلوا بشهاداتهم من حُطام الدنيا الفانية وقعدوا ، ونسوا ما تحمَّلوه من عظيم أمانة ، وقعدوا عن تبليغ الديانة ، وركنوا للدنيا وتركوا الناس في ظلام جهلهم وبأيديهم المشاعل هل سيبقون في قيعان الحفر ، بعدما رأوا شيخهم يعانق بهمته الدعوية أبراج السماء.
لقد وصلتني في يوم وفاة شيخنا رسالة نصية من أخٍ مُحبٍّ فاضل هو الشيخ مشعل بن عبدالعزيز الفلاحي _ وفقه الله _ خففت بحق وقع المصيبة وجلت بعض الهمِّ عن قلبٍ مكلوم ، وجعلت النفس ترمق شيخنا وكأنه يُطلُّ من بين أبراج السماء ، وهذا نصها: [ ( قوموا أيها القاعدون !! ) هذه الرسالة التي خلفها العلامة ابن جبرين برحيله اليوم من هذه الدنيا .. فوا أسفى على عُمْرٍ تقاصر عن هموم الكبار !! ].
إي والله يا أسفى على عمر تقاصر عن هموم الكبار، وهذا هو أول درسٍ نستفيده من حياة شيخنا ، وفاجعة رحيله.

أما الدرس الثاني :
فلئن مات ابن جبرين ، وفارقنا بجسده ، وفات علينا عبير أنفاسه فلقد أبقى لنا ميراثاً لا يخصُّ ورثته فحسب ، بل هو مشاع بين أفراد أمة الإسلام ممن هو اليوم على وجه البسيطة وممن سيأتي إلى قيام الساعة ، إنه العلم الغزير الذي فاض به طيلة حياته ، وما دبجته أنامله وأملاه على طلابه من مسائل محررة ، وكتب محققة ، ورسائل مدونة ، مَنْ لها اليوم يسبر غورها ، وينشر عبيرها ، فلقد صارت التبعة على من خلفه اليوم فهل نعي عِظَم المسؤلية التي ستسألنا الأجيال القادمة عنها ، فهو حقٌّ لها علينا أن نبلغها مالم تسمع ، ونخبرها بمالم تر ، من ميراث هذا العَلَم الهمام ، اللهم يسِّر فلا مُيسِّر سواك ، فالحِمْلُ ثقيل ، والأمانة عظيمة.

أما الدرس الثالث :
لقد عاش ابن جبرين ردحاً من الزمن بيننا سَـرَّ قوماً ، وضَـرَّ آخرين ، نعم لقد سرَّ علمه وبلاغه وهمته أهل الحق ، وطلاَّب العلم ، والباحثين عن الخير والصلاح ، وضرَّ قوماً من أعداء هذه الملة من مبتدعة ، وليبراليين ومتحررين من الفضائل ،وممن كان يحيك الدسائس الفكرية ، والمؤامرات الخفية على هذه البلاد وأهلها فكان شيخنا شجىً في حلوقهم ، وغُصة في صدورهم ، وعقبة في طريقهم ، فقد كان علمه الراسخ ، وقلبه الثابت ، وعلمه المبثوث ، وفتاواه العابرة ، التي ينتظرها الشباب المتوقد المتوثب في كل بقعة من عالمنا الإسلامي الكبير ، مُثبتاً وموجهاً وناصحاً وقائداً لسفينة النجاة الماخرة في عُباب الشبهات والشهوات المتلاطمة ، كم أراح الله به وبفتواه من معضلة ، وردَّ من نازلة ، وبصَّر به من مدلهمَّة لا يعقلها إلا العالِمون من أمثاله .
فهل سنبقى على منواله؟ ، ونسير على طريقه سدَّاً منيعاً لكل فتنة ، فتموت الأعداء بغيظها ، وتحترق بلظاها ، أما أننا سنركن للدعة والخمول ، وننسى حمل المشعل الذي كان يحمله شيخنا فتسرح الأعداء جذلة مسرورة بما تحقق لها من تخطي العقبة الكؤود ، وانطفاء النار المحرقة ، لا حقق الله آمالهم ، ولا بلغهم الله مُناهم آمين.

الدرس الرابع :
مات ابن جبرين كما يموت البشر ، وسنموت مثل ما مات لكن السؤال الذي يجب أن نسأله أنفسنا هل نُريد أن نموت كما مات شيخنا أم لا ؟

إنه ليس من أحدٍ يرى جنازة الشيخ ، وأعداد المشيعين ، وتأثر المحبين ، واثر فاجعة الفقد على الناس ، ويسمع من مآثر شيخنا وأعماله ، وأقواله التي نصر الله بها الحق وأهله ، ورفع الله بها أعلام الأمة ، وكشف الله بها الغمة ، إلا ويتمنى أن يكون كذلك ، ولكن هل سألنا أنفسنا لماذا بلغ ابن جبرين ذلك ؟
إننا نحسبه والله حسيبه قد سبك كل ذلك بإخلاص وتقوى ، ومخافة من الله جلية ، وتعبِّد لله عظيم ، وزُهْدٍ لهذه الدنيا واضح ، وتواضعٍ جمٍّ أخجل المخالفين فكيف بالموافقين المحبين ؟
لقد عاش شيخنا كبيراً في همته ، قريباً من ربه ، ذليلاً لمولاه ، متعبداً في سفره وإقامته ، متوثباً لكل معروف ، يُمضي يومه في عبادة وقربة ، أو شفاعة وكشف كربة ، أو علم يبثه بين الأنام ، مُحتسباً لا يكلُّ ولا يملُّ ، متجدد في كل وقت ، متعففٌ في صمت ، يُفرحه العطاء ، ويؤنسه الوفاء.
إن حياة شيخنا كلها دروسٌ وعبر ، ما تأملها منصفٌ إلا عرف ماذا فقد المسلون بفقده ، وماذا يجب علينا من بعده ، وإني وإن كنت قد أسهبت وبسطت القول إلا أنني أعترف في حقه بالتقصير ،وأعلم أن له عليَّ من الحق الكثير ، وقد سلكت فيما أظن سبيل العدل ، وحاولت أن أبتعد عن الإطراء الذي كان يكرهه شيخنا ونهانا عنه قبل ذلك شرعنا ولسان حالي كما قال الإمام ابن القيم في نونيته :

يارب غَفْراً قد طغت أقلامنا *** يارب معذرةً من الطغيانِ

هذا ما تيسَّر على عجل ، مع تعب النفس وأثر الكلل ، ووقع المصيبة ، وخطر المقام ، وكِبَر الحق ، وقلة البضاعة أقدمه هديَّة من محبٍّ صادق ، ومعترفٍ بالتقصير لكل من خلَّف الشيخ من أهله وذويه ، وطلبته ومحبيه ، في كل مكان من المعمورة مقدماً للعذر وملتمساً للقبول من الله ذي المنن السابغة ، والنعم الظاهرة والباطنة قياماً ببعض الواجب ، سائلاً المولى الكريم أن يُسبغ على شيخنا ووالدنا فضله وإنعامه ، ويُجزل مثوبته ، وأن يجزيه خير ما جزى عالماً عن أمته ، وينقله إلى أعالي الجنان ، ويُسكنه فسيح دار المنان ويعوض الأمة خيراً مما فُقد منها ويجعل في ذريته وعقبه الخير والهدى والبركة آمين
وصلى الله وبارك على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
 

وكتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
إبراهيم بن محمد بن عيسى الهلالي
قاضي المحكمة العامة بالقحمة _ عسير