ذلكم هو ابن جبرين .
أُحسّ حين أهمّ بالحديث عنه؛ أني مفتقر إلى لغة أخرى, غير مفرداتي التي تعودتها .
إنه من البقيّة الصالحة, الذين تنصرف إليهم معاني الذكر الحكيم, فهماً لها , وتحققاً بها , نحسبه كذلك والله حسيبه, حتى إني صليت الليلة مع إمام ؛ فقرأ: ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) حتى بلغ: ( تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [القصص], فلا والله ؛ ما وجدت أخلق به منها, فيمن خالطت وجالست, على أننا لا نتحجّر واسعاً, والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
قبل عشرين سنة (1410هـ) بدأني هو بالزيارة ، وسهر في بيتي مع ثلّة من أبنائه الصغار, الذين يسميهم ( مشايخ ) بكل عفوية وصدق ، وبات عندي ، فلم أر معه لباساً غير ثوبه الذي على ظهره ، ولا منشفة ؛ فيكفيه أن ينفض الماء عن يديه أو عن بدنه ، يصدق عليه حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : « الْبَذَاذَةُ مِنَ الإِيمَانِ ».كما عند أبي داود وابن ماجه وأحمد ، والحاكم .
لا يفكّر في الطعام الذي تقدّمه له ، إن كان مفاطيح ، أو كان معلّبات ، على أنه كريم حق كريم .
ولا يخطر في باله إن كان الذي استقبله بالغ في الحفاوة ، أو عامله بجفاء ، هو نمط مختلف ، تجرّدت نفسه من حظّ نفسه ، فلا يرى لنفسه على أحد حقاً ، بيد أنه قوّام بحقوق الناس على أكمل الوجوه .
تراه ؛ فيبادرك ويعانقك ، وربما حاول أن يقبل رأسك ، لكن هيهات أن يرضى بتقبيل رأس أو يد ؛ بل ينفر من ذلك, دون تصنّع .
دخل المجلس مرّات؛ فألقى السلام على من حوله, وقعد في طرف المجلس متسللاً مستخفياً , لا يحب أن يعلم به أحد ، فإذا نذروا به, فقاموا إليه, وقدموه؛ تباطأ وتلكّأ , وسايرهم على مضض .
لا تجد في لغته : ونرى ، ونقول ، والذي نختاره ، وعندنا ، قلت ؛ وليس أسهل عليه من أن يعدل عن قوله إلى قول غيره .
لا أقول يرجع إلى قول ابن باز , حين اتصل به , وطلب إليه العدول عن اجتهاده أو رأيه في مسألة ما (ولديّ من ذلك حالات وأمثلة) ، ولا أعني رجوعه بناءً على تنبيه من أكابر المشايخ وأهل العلم ؛ لقد أدهشني مرة أن كان بالرّس فسُئل عن مسألة المساهمة في الشركات التي فيها نسبة قليلة من الربا, وأصل نشاطها مباح ، فقال : كنت قلت بتحريمها ثم قرأت جواب فلان , وأنا الآن أقول به ..
وسمى عبداً مثلي, لا يصلح أن يكون من تلاميذه .
رأيت الإمام يلقننا نكران الذات ، وتمام التجرّد ، ونسيان النسيان ، على أننا ونحن نتذكره؛ نبحث عن موطئ قدم لنثني على ذواتنا ، ونتحدث عن ذكرياته معنا ، وثنائه علينا ، هو كان يدرسنا حياً ، وهو الآن يوبخنا ميتاً :
وكانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا !
وفي حديث حارثة بن وهب - رضي الله عنه -قال : قال قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : «ألا أخّبْرُكم بأهل الجنَّة ؟ قالوا : بلى ، قال : كلُّ ضعيف متضَعِّف, لو أقْسمَ على الله لأبرَّه». رواه البخاري ومسلم.
ولعل من علامات القبول والتوفيق, أنني بينما أكتب هذا الحديث؛ جاءتني رسالة بالجوال فيها؛ يقول صلى الله عليه وسلم: « حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ ». رواه أحمد والترمذي..
ويقول عليه الصلاة والسلام : ((أنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ في الأَرضِ )) وهو حديث متفقٌ عَلَيْهِ .
والذين عرفوا الشيخ عن كثب, أو جالسوه, يُطْبِقُون على أنه سهل قريب ، الوصول إليه سهل ، والانتفاع به سهل ، والتعلم منه سهل ، وإقناعه سهل .
نعم ؛ هو متواضع ، على أن التواضع يوصف به من يعرف أنه رفيع, ولكنه يوطّن نفسه على مرتبة أقل من قدره ، أما هو فهو غفل عن منزلته ، وكأن ذاكرة الذات منزوعة من برنامجه أصلاً ، وليست ممسوحة المادة !
من سهولته بذله العلم لكل أحد ، منذ ستين سنة ، يدرّس الثلاثة والأربعة ، بكامل الهمة والإخلاص واستحضار العبودية ، ويدرس الآلاف في دورة أو محاضرة فلا يراهم ، إنما يرى الثلاثة أو الأربعة القريبين منه ، حتى نبرة الصوت واحدة ، والأداء واحد .
لست أشكّ أنه أكثر العلماء اليوم تجاوباً ومشاركة في المناشط والدروس والدورات في المدن والقرى والأرياف والمراكز والمساجد ، تستجيب للطفل الصغير ، وللشيخ الكبير ، وللأمير وللفقير .
ومن سهولته أنه يستوعب المستجدّات والمتغيرات ، ويوظف الأدوات الحديثة للدعوة ، من يوم أن كان البريد العادي هو الوسيلة الفعّالة ، إلى عصر الإنترنت ، حيث دشن موقعه واعتنى به ، وأقام حفلاً مشهوداً في منزله ؛ حضره كبار المشايخ والعلماء ، إلى عصر الفضاء ، حيث لم يطل تردده حتى اقتحم عالم القنوات الفضائية ، وصار يقدّم البرامج الإعلامية حتى على دروس المسجد إذا تعارضت؛ لما لمس من أثرها , وأدرك صداها على القريب والبعيد ، وقد عوّد أقرانه على أن يتقبلوا منه هذا التجرد, ولا يطيلوا التثريب عليه !
ومن سهولته أنه يستمع أكثر مما يتحدث ؛ كما وصفه بذلك رفيق دربه معالي الشيخ عبد الله الركبان – حفظه الله- ، ولا يرى نفسه أكبر من أن يستفيد ، فإذا أُسند إليه الحديث تحدّر كالسّيل ، وأقبل كالبحر ، يستشهد بالآيات المحكمة ، والأحاديث بنصوصها وتخريجها ، والشعر العربي الفصيح ، وأقوال الفقهاء والأئمة ، ومقامات الأدباء ، ويتكلم في سائر العلوم؛ وكأنه موسوعة حوت من ألوان المعارف ما يعجب أو يطرب .
شرفني بأن يناقش أطروحتي للدكتوراه ، وقرأها خلال فترة وجيزة على تزاحم أشغاله ، وقد كنت قضيت فيها وقتاً طويلاً أدرّسها في المسجد ثم أكتبها وأخرجها .. لبضع سنوات .. وحين ناقش كان قرأها مرة حرفاً حرفاً ، وصحح واستدرك, حتى شعرت بأنني أصغر وأصغر .. ومع أن هذا بالنسبة لي تخصص علمي ، إلا أنه كان ينبّه إلى خطأ في راوٍ ، أو وهمٍ في إسناد ، أو انتقال ذهن في كتاب ، وربما قال : هذا المخطوط الذي أشرت إليه ، مطبوع في المكتبة الفلانية بتحقيق فلان .. وقد أدرجت معظم ملحوظاته على الرسالة ، لأنها صواب ، ولأنها وسام شرف للرسالة وصاحبها .
من المجاهرة بالخير أن أعلن عن حبي العظيم لابن جبرين ، ورجائي ربي أن يحشرني وإياه مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وأن يجعل حبي له في صالح عملي ، ويمنحني به الزلفى إليه ، وسؤالي إياه تبارك وتعالى بحسن ظني به , أن يحقق لنا هناك في الدار الآخرة الوعد الذي لم ينجز في الدنيا , أما ما أنجز من جنسه؛ فقد صار خبراً مضى وانقضى.
فقد أرسل إليّ صديقي د. علي الحماد؛ يعزيني في الشيخ ، وقال : كنت عنده قبل مرضه وقلت له : الأخ سلمان مواعدني في الرياض فنريد أن تشرفنا معه يا شيخ ؟ فقال : لا بأس بشرط أن يعطيني الأخ سلمان موعداً !
فاللهمّ إني قابل لشرط الشيخ ، وسائلك بفضلك العظيم ألا تحول بيني وبينه بذنبي .
اللهم اغفر لابن جبرين ، وارفع درجته في المهديين ، واخلفه في عقبه في الغابرين ، اللهم أفسح له في قبره ، ونور له فيه ، ولا تحرمنا أجره ، ولا تفتنّا بعده .
فضيلة الشيخ/ سلمان بن فهد العودة
السبت 25 رجب 1430الموافق 18 يوليو 2009