عبد العزيز البرتاوي
كان من الممكن أن لا يُعرف هذا الرجل الآتي من أوسط الصحراء. كان من الممكن أن لا يتحوّل الإعلام ظهر أمس ، لمرصدٍ كبيرٍ لصورته وسيرته وحياته وميتته. كان من الممكن أن يطلب العلمَ في حلقات المساجدِ وبيوت الشيوخِ كمجايليه ، ثمّ ينصرف. لكنّ نسرَ الروحِ كان أشدّ همّة. الشيخ الوهابيّ النجديّ يحصّل درجة العالميّة الدكتوراة بعد أن تخطّى الستين ، ويسجّل اسمه شيخاً في القديمِ وأستاذ بحثٍ جامعيّ في الحديث.
كان من الممكن أن تأخذه المناصب ، لو قرّر أخذها. كان من الممكن أن يتبوأ شاشاتِ الإعلامِ لو أراد. كان من الممكنِ أن يظلّ حكراً على ذوي البيوت والبشوت واليخوت. أن يكون قدره بين الفنادقِ وحفلاتِ التكريم وأوسمة التمييز. أن يكون ذا بشتٍ مذهبٍ الإطارات ، وضمير كذلك. لكنّه قرّر أن يكون .. وحده.
القرى البعيدة ، الهجر المتناثرة ، البيوتات المتفرّقة على هجير أمواج الصحراء .. تعرفه ، تعرف سحنة وجهه الباسم ، راحة كفّه المانح ، سعة قلبه الودود. إن أنكرته أبهية القصور ، ألفته أعمدة الخيام ، إن جهلته بوّابات مراكز الدعاية والفلاشات ، نحتته في مخيلّاتها قرائح النسوةِ البعيدات ، الأطفال المشبّعين بالبعد والصحراء والرمال. يشقّ الوطن من أوّله لآخره ، مانحا معطيا محدّثا مستمعاً. إنّه يستمع ، إنّها ميزة تندر في الصغار ، كيف إن كانت من كبير ، كيف إن كانت من سيّد الكبارِ في عصره.
الذين تنصّلوا البارحةَ منه .. عادوا اليوم ، عرفوا أنّه لا ينصرف سوى الأثرياء ، أثرياء الروحِ لا الأرصدة. الذين قالوا له البارحة: إنّ الناس قد مجّوا خطابك المعاند هذا ، عادوا يتمسحّون برداء كبريائه. عادوا يتمسحون باللفافة البيضاء ، بمسك الرحيل الأبيض ، برائحة الإذخر ، الإذخر الذي أجبرهم على الإنحناء ، البياض .. أجبرهم على تسوية أكتافهم لعبوره.
حين أخرجوه من الجامعة ، قرّر جامعته لوحده. حين تخلّت عنه الرسميّة ، صبغ نفسه ببهاء الذات المتفرّدة اللامحتاجة. حين أمعنوا في إبعاده ، تكريس تغييبه ، زاد قرب الناس له ، وأعلنت قلوبهم التصاقها بعبقِ روحه. وحين تجاوزوه أثناء أعطياتهم لمن يستحقّون ومن لا ، قرّر أن يكون معطياً لا آخذا ، وبهذا تفرّد.
الذين لا يعرفون الدراسة إلا في دور التعليم المعتمدة ، المناهج المخطوطة بأحبارٍ أجنبيّة ، عليهم أن يدركوا أنّ رجلاً لوحده كابن جبرين ، كان ينقل جامعاته المفتوحة معه أينما رحل ، يناقش كلّ المواد ، يدرّس كلّ نوعيّات الطلبة ، يحاضر في جميع الأقسام ، يعمل على مدار الوقت ، دون كلل ولا ملل ولا علل. أثبت هذا الرجل/الجامعة ، جدوى التعليم المفتوح المتاح للجميع ، الجدير بالذكر ، أنّ رسوم التسجيل في جامعاته مجّانية ، وأنّ طلبته لا يستلزم لحضورهم أكثر من جدّية.
كان من الممكن أن تحلّ هذه الظهيرة على العاصمة ، بعاصفة من غبار لا دمع ، بموجةٍ من أتربةٍ لا حزن ، بهبوبٍ من رمالٍ لا من وجع. لكنّ الأشياء ، تؤجّل نفسها حين تفتقد من لا يُفتقد ، وتجعل منها أحداثاً هامشيّةً أمام خطبٍ عظيمٍ يحلّ بالساحةِ نفسها ، كلّ المراصد تنبأت البارحة وقبلها ، بموجاتٍ كثيرةٍ من الغبار والأتربة والرمال والعواصف. ووحده موت ابن جبرين كذّب الجمع ، وقرّر أن يكون المناخ اليومَ .. حزينا !
http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-43-116172.htm