إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا شيخ عبدالله لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
لقد فجع العالم الإسلامي برحيل العلامة الجهبذ والمربي الكبير والإمام الزاهد، والفقيه الورع، والمحدث المحقق، سماحة الشيخ الوالد عبدالله بن جبرين، جبر الله مصيبتنا فيه وأخلفنا خيراً منه، وغفر الله له ورحمه وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وأهله وذويه الصبر والسلوان، وكان ذلك في يوم الاثنين الموافق للعشرين من شهر رجب 20-7-1430هـ قبل أذان العصر وصلي عليه في الجامع الكبير (جامع الإمام تركي بن عبدالله) بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء الموافق 21-7-1430هـ ووري جثمانه في مقبرة العود، في مشهد عظيم ومهيب، وجمع غفير، وزحام شديد، ومشيعون كثر ازدحم بهم الجامع وساحاته وأروقته وصلى بعض الناس في الشمس من شدة الزحام، جاؤوا يبكون ويترحمون على الشيخ ويدعون له وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على محبتهم للشيخ وتقديرهم له لما يتصف به من غزارة العلم واتساع المعرفة، والحلم، والورع، والزهد، والتواضع، ولين الجانب، والحكمة، والرأي السديد، والصبر، والكرم، والجود والإحسان.
وكان رحمه الله ذا جلد وصبر عجيب في إلقاء الدروس بعد الفجر، والظهر، والعصر مخصص لعقد الأنكحة وما تبقى للمغرب، درس، وبعد المغرب وبعد العشاء، إلى جانب الفتاوى والرد على الأسئلة أغلب وقته مشافهة وبالهاتف من كل مكان ولا تنسى المشاركة في المحاضرات والكلمات، والندوات، وتشريف حفل حفظة القرآن، ومساعدة الفقراء والمحتاجين إما بالبذل والإحسان إليهم أو الكتابة والشفاعة لهم عند أهل الخير، والمشاركة في الدعوة في موسم الحج في كل سنة، والمشاركة في الدورات العلمية، وكذلك إلقاء خطبة الجمعة.
ومؤلفاته وشروحه على الكتب كثيرة مثل: شرح منهج السالكين للسعدي، لمعة الاعتقاد لابن قدامة، كتاب التوحيد لمحمد بن عبدالوهاب، ومنار السبيل، وشرحه لكتاب الزركشي، شرحه لأصول اعتقاد أهل السنة، وغيرها كثير.
والشيخ لا يتوانى أو يتكاسل في الدعوة إلى الله ونشر العلم، ومن المواقف الطريفة في ذلك أتيت إليه قبل عشر سنوات بعد صلاة العصر عند بابه وإذا به قد ركب مع بعض الشباب ليذهب معهم فسلمت ورفض أن أقبل رأسه لتواضعه، فقلت له: إلى أين أنت ذاهب يا شيخ؟ فقال: إلى القويعية مع هؤلاء الشباب لحضور حفل حفظة القرآن الكريم. فقلت له: يا شيخ هل نسيت أن عندك اليوم محاضرة في ثادق بعد المغرب؟ فتبسم الشيخ وأخرج محفظته الصغيرة الحمراء ووجد نفسه قد دون الموعد ولكنه نسيه، فقال أجل نذهب معك، واعتذر للشباب وركب وسافر معي (ونعم الرفيق الذي لا يُمل) فوصلنا ثادق عند أذان المغرب فسألته يا شيخ هل تعلم ما هو موضوع المحاضرة قال لا، فأعلمته، فقال الله يعيننا، فصلينا المغرب وبدأ الشيخ المحاضرة وكأنه حضَّر لها قبل شهر!!، ثم صلينا العشاء وأجاب على أسئلة المصلين، ثم العشاء، ثم لقاء مع الشباب يوجههم ويجيب على أسئلتهم حتى نفدت وكان رجوعنا للرياض الساعة 1.30 ليلاً ولم يبد تضجره أو ملله أو تعبه مع كبر سنه رحمه الله.
نهاية المطاف: مرض الشيخ وأجريت له جراحة أربعة شرايين في القلب في شهر صفر 1430هـ في مستشفى الملك فيصل التخصصي حيث لقي رعاية واهتماماً من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله (حفظه الله ورعاه) حيث زاره بالمستشفى وأمر باستكمال علاجه في مستشفيات ألمانيا على حسابه الخاص جزاه الله خيراً ثم عاد إلى الرياض في جمادى الآخرة لاستكمال العلاج في المستشفى التخصصي ثم ما لبث أن جاءه الأجل المحتوم في يوم الاثنين 20 رجب 1430هـ وصدق القائل في كتابه: {لكُلِّ أَجَل كِتَابٌ}.
اللهم اغفر لشيخنا واخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك، يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
محمد بن سعد السعيِّد - إمام وخطيب جامع سلطانة الشرقي بالرياض
http://www.al-jazirah.com/147571/fe4.htm