نعم . . .
لقد غيب الموت أحد أبرز العلماء الربانيين ، الذين عرفوا بين النـــــاس بحــب العلم ؛ نشراً وتدريساً وإفتاءً وبحثاً وتحقيقاً وتدقيقاً ، تفوق دروسه الأربـــــعين في الأسبوع بين حديث وفقه ، تفسير وسيرة ، وعلوم العربية والســـــياسة الشرعـــــية ، ويتحمل الشيخ على كبر سنه – شارف 80 عاماً -حِمْلَ التنـــــقل بــــــــــين المساجد فمن جامع الراجحي بشبرا إلى مسجد الراجحي بالربوة ، ومن مسجد محمد بن إبراهيم بالدخنة إلى جامع الملك جامع بأم الحمام ، ومن جامع عتيقة إلى مــــــسجد البرغش ، صبور لا يمل العلم ، وقور تعلوه هيبة العلماء ، يضرب للــــــناس – عالمــــهم وعاميهم – مثلاً مُشَاهداً لسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، و طريقة السلف الصالح .
إذن .. مات الشيخ الذي : ( لعب وقفز على بيوت الطين المنتـــشرة بالقويعية , شرب من مياه الآبار الضحلة ، وجلس على أطرافها يسمع الأخبــــار والحكايات , لبس الملابس المتواضعة في قريته الطينية , لم يلبس الغــــالي والنفيس , لم يفكر في شراء أثواب كل شهر أو شهرين , بل كان مثل أبناء الجزيــــرة العربية آنذاك يفرح بالثوب والثوبين من العيد إلى العيد , عاش بــين الـناس الذين تقاربت مستويات معيشتهم , عاش بآمـالهم , وعــــــاش بأحلامهم , وتغنى بمستقبلهم , ضحك بين النخيل , جرى مع الطيور والعصافير يداعبها وتداعبه , وجرى مــــع الصبية وهم يلهون بين ماء الزروع وبقايا الغنم والإبل هناك , يراه الناس وهو قــــد ملأ الطين
رجليه وساقيه النحــــيلتين ، ويفــــرح بذلك الجو البهيج ، فهو يعتبر ذلك شعاراً للإنسان الحر النبيل ) .
عرفتُ فضيلته واعظاً يتخول مساجد مدينة الدمام- وأنا لا زلت في نهايات المرحلة الابتدائية – فارتسمت في ذاكرتي صــورة العالم الذي يتدافع الناس للقرب منه ونـيل الحظوة بالحديث إليه ومعه ؛ ولو بافــتراض سؤال لم يقع ، ثم قرت عيني برؤيته واعظاً ومفتياً بالمعهد العلمي مرحـــلة الثانــــوية بالــــدمام ؛ وقد تحيـَّنت الفــــرصة للــــصلاة إلى جــــواره بعد انتــهاء كـــلمته لأنـظـر صـلاتـــه ، و اكـــتسب الخشوع – كما أزعم – و أُقبَّل الكيان الذي ملئ علماً و زُهداً وصبراً .
نعم . . .
عرفت ابن جبرين رحمه الله تعالى في دروس الفقه والعقائد ، والتي لم يزل تقـــرير عويـص مسائلها تكييفاً وترجيحاً ؛ محفوظاً لدى طـلابه من خلاله دروسه في الدمام والريـــــاض ، و لا زلتُ محــتــفظاً بكلمته الشجية الصادقة التي داعبت مسمعي ، وشحذت همتي للعلم ونيل شهـــــادة الدراسات العليا ، إذ قال : ( كنـــتُ ممن درس وكتب وذاكر ونسخ الكتب الكبيرة على ضوء الشـــمع ، واليــــوم - ومع وجود الكهرباء إلا أن الـــطلاب يتضجرون . . ) .
وقبل الختام : إن القلـــــــب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإن لفراقك شيخنا لمحزونون ، وتسليتنا في فراقك ( إن في البقية خير) .
وقد جادت نفسي بهذه الأبيات ، والخاطر مكدود :